اليمن يقاتل.. إذاً هو موجود
د. إبراهيم علوش
لم يكن على اليمن أن ينتظر الكورونا ليذوق طعم الجائحة، إذ أن الكوليرا غزته في خضم العدوان، ولم يدفع ذلك قوى العدوان إلا لزيادة الحصار عليه تشدداً، فيما شاح العالم بوجهه عن معاناة اليمنيين، ولولا صمودهم وإنجازاتهم العسكرية الفذة على الجبهات وفي العمق السعودي، وتهديدهم لإمدادات النفط، لما تذكّر العالم أن ثمة حرباً على اليمن، ولكان اليمنيون سيعانون بصمت، سوى أنهم قرروا ألا يموتوا بصمت، وأن يجعلوا اليمن مقبرةً للغزاة، كما كان عبر تاريخه، كما قرروا أن الطريقة المنطقية والمشرفة الوحيدة لإيقاف أي عدوانٍ غاشم هي رفع كلفته إلى حدٍ لا يطاق بالنسبة للمعتدي، وإفشال أهدافه السياسية والميدانية، وهكذا كان، وهم لها كفؤاً.
لكن “أكبر موجة وباء كوليرا في العالم”، بحسب تقرير لمنظمة الصحة العالمية على موقعها في 27/2/2020، كانت قد بدأت باجتياح اليمن في نهايات عام 2016، وثمة مليون و300 ألف يمني يشتبه بإصابتهم بالكوليرا اليوم، من أصل 27 مليوناً ونيف. وكان تقريرٌ سابقٌ لمنظمة الصحة العالمية قد أشار إلى أن أكثر من 1500 مواطن يمني قضوا في الكوليرا خلال عام 2017 وجزء من عام 2018، هي الحالات الموثقة فحسب، على الرغم من سهولة العلاج الذي يتطلب استخدام مضادات حيوية مناسبة ومحاربة الجفاف الذي تسببه الكوليرا. لكن تدمير المرافق الصحية، وانعدام موارد المواطنين، وصعوبة وصولهم إلى مياه نظيفة، حوّل وباءً قضت عليه الدول الغربية فعلياً في القرن التاسع عشر، أساساً من خلال تطوير شبكة المياه والصرف الصحي إلى وباءٍ قاتل.
وإذ يمسك وباء الكورونا العالم من رقبته اليوم، من الحري بنا أن نلتفت إلى حرب اليمنيين على جبهة الكوليرا، وهي في حقيقتها إحدى جبهات العدوان على اليمن، لأنها جاءت معه، وتعززت في ظل الحصار وتدمير بنية اليمن التحتية، تماماً كما انتشرت الكوليرا للأسباب ذاتها في خضم العدوان على العراق.
الجوع، جبهة أخرى من جبهات العدوان على اليمن، إذ يقول تقرير لـ “برنامج الغذاء العالمي”، في بداية عام 2020: إن أكثر من 20 مليون يمني، من أصل 27 مليوناً، يعانون عجزاً غذائياً مزمناً يحتاجون إلى مساعدة لسده، فيما بات يعيش أكثر من نصف هؤلاء يومياً على حافة المجاعة، بحسب تصريح للناطق الرسمي باسم “برنامج الغذاء العالمي” العام الفائت.
هو جوعٌ أقرب للتجويع، لأن الحصار المتعمد لليمن، الذي يحجب ما يحتاجه من محروقات ومدخلات للعملية الإنتاجية، بعد التدمير المنهجي لاقتصاده وبنيته التحتية، هو أهم أسبابه. وعندما نتحدث عن جوع وتجويع، فإن ذلك يعني، فيما يعنيه، الموت جوعاً. وقد توقّع تقرير لـ “البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة”، نُشر في 22/4/2019 على موقعه، أن عدد الذين ماتوا جوعاً قد يبلغ أكثر من 131 ألفاً مع نهاية عام 2020، فيما توقّع التقرير ذاته أن يبلغ عدد الذين قتلوا في القصف والمعارك أكثر من مئة وألفين، لتصبح الحصيلة قرابة الربع مليون!.
إذاً، خرافة “أكثر من عشرة آلاف قتلوا في حرب اليمن حتى الآن” لم يعد لها محل من الإعراب على الرغم من كثرة “تصريفها” في وسائل الإعلام.. ربما للتقليل من حجم الجريمة، وربما من قلة الاكتراث، وتلك جريمةٌ أكبر. ومن الملفت أن تقريراً رسمياً للكونغرس الأمريكي، نُشر في 6/9/2019، يستند إلى تقديرات مركز أبحاث مرموق ممول أمريكياً وأوروبياً، يقول: إن عدد من قضوا بشكلٍ مباشرٍ في حرب اليمن هو ستون ألفاً، ولدى الذهاب إلى التقرير ذاته على موقع المركز المذكور، وهو ACLED، يتبيّن أنه يقول: إن عدد من قتلوا في حرب اليمن بين 1/1/2016 و13/4/2019 فقط هو سبعون ألفاً ما بين عسكريٍ ومدني قضوا نتاج الاستهداف المباشر في العمليات العسكرية، كما نفهم من التقرير.
هي أحد أكبر جرائم العصر إذاً.. عملية إبادة جماعية عن طريق الموت البطيء جوعاً، بموازاة عملية تدمير منهجية لمجتمعٍ عريق وبلدٍ بأكمله، والإدارة الأمريكية شريكٌ مباشرٌ فيها، فهي تزوّد قوى العدوان بأكثر أسلحة القتل والدمار فتكاً، وتدعمها لوجستياً واستخبارياً، لكن كل ذلك يصغُرُ أمام دور الولايات المتحدة في تشديد الحصار البري والجوي والبحري على اليمن، الذي يقتلُ أكثر من الصواريخ والقنابل، وبصورة أكثر بشاعةً.
وكان نظام آل سعود قد بدأ حصاره لليمن مع بدء عملية الغزو عام 2015، واضعاً سفنه الحربية في المياه اليمنية، وفي شهر تشرين الأول 2016، انضمت الولايات المتحدة إلى قوى العدوان في حصار اليمن. وفي شهر تشرين الثاني 2017، تم إطباق الحصار الأمريكي – السعودي على اليمن براً وبحراً وجواً تماماً، ومن هنا انطلقت المجاعة وتفشى الوباء، وهو ما لا يمكن فهمه حتى كحملة عقاب جماعية لليمن على صموده وثباته في وجه العدوان، إنما هو جزءٌ من مشروع صهيوني لتدمير اليمن، مهد العروبة، كقوة مركزية في شبه الجزيرة العربية، تحت عنوان كاذب ومضلِل هو “التحالف العربي”، في سياق مشاريع تدمير الدول العربية المركزية أو تلك التي تحمل إرثاً قومياً أو وطنياً تحررياً مناهضاً للاستعمار، من العراق إلى ليبيا إلى سورية، وهي مشاريع شاركت فيها الأنظمة الرجعية العربية ذاتها التي تسعى لتدمير اليمن اليوم.
وعلى سيرة الإرث المناهض للاستعمار، لا بد من لفت النظر هنا إلى الدور البريطاني في العدوان، على هامش الدور الأمريكي. وبحسب موقع مجلس العموم البريطاني، في وثيقة رسمية منشورة في 15/9/2016، فإن وزير الخارجية البريطاني، آنذاك، فيليب هاموند أكد أن نظام آل سعود يستخدم طائرات حربية ومعداتٍ عسكريةٍ بريطانية في العدوان على اليمن. وفي 19/6/2019، نشرت صحيفة “ذي غارديان” البريطانية تقريراً أكدت فيه وجود “آلاف المتعاقدين البريطانيين” في السعودية ممن يعملون يومياً في التجهيز العملياتي لحملات القصف على اليمن، منهم من يعمل مع “القوات الجوية الملكية”، فيما النصيب الأكبر يذهب لأكبر شركة أسلحة في بريطانيا، وهي BAE Systems، التي تعاقدت معها الحكومة البريطانية من الباطن لتوريد الأسلحة وتزويد الحملة على اليمن بالصيانة والمهندسين.
أمريكياً، بالرغم من بعض النزاع بين إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما والنظام السعودي حول طريقة إدارة الصراع في اليمن، فإن إدارة ترامب تجاوزت كل الضوابط التي حاول الرئيس أوباما فرضها في الشأن اليمني. واليمن اليوم ما يزال موضع صراع بين ترامب والدولة العميقة الأمريكية التي لم تذهب إلى حد تجاوز حق النقض على قرارات الكونغرس بوضع ضوابط على بيع صواريخ جو – أرض لقوات “التحالف”، وبسحب الضباط الأمريكيين الذين يديرون الحرب على اليمن مع “التحالف”. لذلك كله فإن الحرب على اليمن مرشحة للاستمرار في المدى المنظور، وكذلك الحصار القاتل، إذ أن الدولة العميقة الأمريكية تشترك مع إدارة ترامب في التوجه الاستراتيجي، وهو تحجيم اليمن ومحور المقاومة، إنما تتعلق تحفظات الدولة العميقة بفضيحة “البعد الإنساني” تارةً، وبخطر تفشي الإرهاب و”النفوذ الإيراني” طوراً من جراء فقدان السيطرة على حرب اليمن، والأهم، تتعلق بتجاوز إدارة ترامب للكونغرس الأمريكي وتهميشه في القرارات المتعلقة بحرب اليمن، أي أنه نزاع على الصلاحيات، هو في المحصلة جزءٌ من نزاعٍ أوسع ذي انعكاساتٍ عديدة بين ترامب والدولة العميقة الأمريكية.
لا رهان إذاً على الدولة العميقة في إنهاء الحرب على اليمن، لا سيما أنها حربٌ مدفوعة صهيونياً بالنهاية، واللوبي الصهيوني متغلغلٌ في الدولة العميقة الأمريكية أيضاً..
أخيراً، لعل أسوأ طريقة يمكن أن نقدّم فيها ما يجري في اليمن، أو فلسطين، أو غيرها من قضايانا العربية، هو تقديمها كقضية “معاناة إنسانية نطالب المنظمات الدولية بالتدخل فيها”، كأن المنظمات الدولية شيءٌ محايد، أو كأن الغرب هو “مرجعية الضمير الإنساني”، أو كأننا بلا حولٍ ولا طول. وعلى العكس تماماً، إن مفتاح خلاصنا بأيدينا، ومفتاحنا هو تصعيد المقاومة إلى درجة غير محتملة بالنسبة للعدو، فنحن لسنا “ضحايا”، إنما نحن مقاومون وأصحاب قضية محقة نقاتل من أجلها، ولا نستجدي “صدقة الاهتمام بنا” من قِبَل العالم الغربي. وعلى المقاومين اليمنيين، والفلسطينيين، وغيرهم، أن يعلموا أن خلاصهم ببنادقهم وصواريخهم وثباتهم على الحق بالرغم من القتل والحصار والتجويع، فلا خلاص إلا بهذا. وعلينا كعربٍ أن نتذكّر، فيما يجلس العالم متربصاً لعل غيمة الكورونا تنقضي سريعاً، أن اليمن مهدنا وقضيتنا، وأن أي عربي حق لا يمكن أن يكون إلا مع اليمن، وأنه من بين المحاصرين بالعقوبات والقتل والعدوان والوباء، هو الأحق بوقوفنا معه.