ما بعد كورونا
د. نضال الصالح
كائن مجهريّ، متناهٍ في الضآلة، يوقف كوكب الأرض على قدم واحدة، أشبه بالوحش خمبابا في الملحمة الرافدية التي تنتهي بابتلاع الأفعى لنبتة الخلود، والتي من بعض دوالّها أنّ القوّة ليست شرطاً للخلود، بل ما ينفع الناس ويمكث في الأرض. وحش بأذرع طويلة تمتد من أقصى الكوكب إلى أقصاه، لا تميز، في بطشها وطيشها وعربدتها ونهمها للقتل، أتباع دين سماوي أو وضعيّ من أتباع آخر، ولا أتباع مذهب من أتباع آخر، ولا إثنية من أخرى، ولا ذكراً من أنثى، مستهدفة الإنسان أيّاً كان، وأنّى كان، وكيفما كان، ومؤكدة أن كورونا الأبشع والأكثر توحشاً وشهوات محمومة للدم هو الهويات التالية للهوية الجذر، الإنسان، والتي لا تعني شيئاً إلا لمَن هو دون الإنسان.
سينتهي أمر الوحش كورونا، لا بدّ سينتهي، سيسقط صريعاً بالعلم كما سقط سابقوه من الجائحات التي أدمت بمخالبها الضروس جسد هذا الكوكب منذ كان، منذ أول لعنة للقتل في التاريخ، ولكن ما لن ينتهي أنّ البشرية، شأنها عبر التاريخ، ستعيد سيرتها الأولى ما إنْ تقضي على الوحش، وستتابع عبثها ضدّ الطبيعة ونفسها بآن، ولن تتعلّم الدرس الذي يجب أن تتعلّم، والذي من بعض بلاغته أنّ القوّة لا تعني الخلود، وأنّه ما مِن شيء في الحياة يستحقّ من أجله أن يستذئب أحد ضدّ الآخر، أو يأكل لحمه، حقيقة أو مجازاً، أو يبيع ضميره للشيطان، أو يكتفي من المعرفة عن الآخر بالسماع، أو يخون، أو يغدر، أو ألا يعنيه من الحياة سوى ما يعنيه وحده، وأنّ ثقافة الانتماء إلى الإنسان، لا الوحش في هيئة إنسان، هي ما يطهر هذا الكوكب من الدنس الذي يلوّثه بسبب قوى طاعنة في شهوة التملّك والاستتباع والتوهم بحقّ القوّة بدلاً من قوّة الحقّ، والذي جعل منه، ولمّا يزل، عالماً تحتضر فيه القيم، وثوراً هائجاً يتحكّم بقرنيْه الأشرار وعبدة المال والملوثون بشهوة الحضور الزيف وموتى الضمير.
سينتهي أمر الوحش، وما يجب أن يبدأ قبل أن ينتهي، على المستوى الفرديّ على الأقلّ، أن يتفكّر الإنسان، في حجره الطوعيّ أو القسريّ، فيما مضى من حياته، في ماله الذي اكتسبه أو جمعه وعدّده، وبيته ممّا بناه، وكم صدقَ في قول وكم كذبَ، وكم ضرَّ وكم نفع، ومَن أوفى له أو غدرَ به، وبأيّ من الصفات تصدّر، الكفاءة أو الفساد أو الوطء على جثث قتلاه. أن يقوم بجردة حساب للماضي، ثم أن يصدق في استعادته الإنسان الذي شاءه الله أن يكون على صورته، فيكون شريكاً في خلاص هذا الكوكب ليس من كورونا وحده، بل أيضاً من صفة الغاب المتخم بالضباع والذئاب والزواحف والملوّثين بـ: أنا ومِن بعدي الطوفان.
ماذا لو أنّ كلّ “محجور” طوعاً أو كرهاً فعل ذلك؟ أم أنّ “لو” هذه هي نفسها في النحو العربيّ شرطيّةٌ تدل على امتناع الجواب لامتناع الشرط؟