عجالة قلم تنهي قدراً عاجلاً
هناك، إلى عالم آخر نقلنا الكاتب أو الشاب المستجد على الكتابة والتي يعتبرها حلمه الأسمى، بعيداً عن تخصصه في الأرقام وعشقه لها، فهي التي تمنحه نوعاً من التوازن في الحياة. محمود المرعي شاب في مقتبل العمر أقدم على مغامرة جميلة لطيفة في زمن سريع رسم لنا إيقاعات موسيقية تنقلنا بين نوطاتها في زمن ما قبل الحرب وخلالها، “ٌقدر عاجل” لم أعرف سبب تسميته لروايته الأولى بهذا العنوان، لربما كان السبب سرعة الحب التي اجتاحت قلب البطل غيث الدمشقي الذي لم يعرف الحب إلا عندما التقى الرسامة ريما الشامي، التي تلاعبت ورسمت قدره وقدرها إلى أن وقعت هي ضحية لعبتها فكان الحب من نصيبها أيضاً.
أو لأن الكاتب أراد إيصال فكرة أن الحب يجتاح قلبنا دون استئذان، هكذا يولد في لحظة ويسكن من دون أن يأخذ تفاصيلنا أو أن يهتم في معرفتها، لا يحتاج إلى رقم القيد والخانة، لا يحتاج إلى معرفة لونك وعرقك وتفضيلاتك، لا داعي أن تكونا تشبهان بعضكما، هو فقط يدخل ويعيش هناك ولا أدري إن كان الحظ هو قسمتنا أن يبقى لا يفارقنا ويعود في لحظات الحنين ليشعرنا بوجوده ويقول أنا هنا. “كيف لأشياء سابقة أن تقتحمنا حتى بعد ذهابها؟ كيف لأشياء سابقة أن تقوم باغتيالنا دون أن تصنع لنا أقل قدراً من الهيبة؟ من أين للماضي تلك الجرأة في التمادي على الحاضر؟ كيف يقحم نفسه في القدر بهذه الطريقة السادية، أيكون القدر مازوشياً مثلاً؟”.
ننتقل بين فاصلين، فهذه الحرب كانت هي الفصل في سورية، وفي دمشق خاصة لأنها تعيش في قلب الكاتب، نقل تفاصيل المدينة التي تسكن قلبه وعقله على الورق، فيعيش القارئ دمشق بتفاصيلها الصغيرة، تتخلل الكتابة مقاطع لفيروز فيتخيل وكأن الراديو قد انطلق فجأة لتسمع اللحن وتدندن الكلمات، حتى أن الكاتب بدأ إهداء الرواية بشكل مختلف عن المألوف فهو كان قد أرسل تهديداً محبباً مستفزاً إلى ريما الرحباني قائلاً لها: “والدتك ليست لك فقط.. هي أمنا جميعاً، ولو أن صوتي جميل لقمت بإعادة أغنيات السيدة واحدة تلو الأخرى.. لذا كحل مؤقت ريثما أصبح من أصحاب الأموال والإنتاج الخاص.. قررت أن أقوم بالاقتباس منها ووضعها في هذا الكتاب.. أتمنى أن تقاضيني كي أقف في وجهك.”
تبدأ القصة عندما يكون غيث الدمشقي بطل الرواية بديلاً لزميله الصحفي الذي طرأ عليه أمر فلم يستطع الذهاب لمقابلة فنانة صاعدة تقيم معرضها في حواري دمشق القديمة، شعور غيث بأنه بديل لأحد كان مستفزاً له لأنه لم يكن يوماً يستسيغ فكرة أن يكون مكان أحد، إما أن يكون هو الشخص المنشود أو لا، لكن للقدر رأيا آخر، ولريما أيضاً، وهذا ما يتضح في نهاية الرواية، فشعور البديل ظل مرافقاً لغيث كخياله، أرقه في بعض الأحيان دون أن يجد له تفسيراً، تمر الأحداث ببطء أحياناً نمشي مع الكاتب شوارع دمشق أيام الشمس عندما كانت تنير الأروقة والشوارع، نسمع صوت المطر وهمس العشاق في الطرق والأزقة، نعيش الحنين لأيام ما اعتقدنا يوماً على صغر تفاصيلها أن نتحسر عليها، استطاع محمود المرعي من خلال عبارات بسيطة أن يوقظ الحنين في روايته لهذه المدينة العظيمة، ومن خلال بعض الأغنيات لفيروز التي ما بخل علينا بها، فمنها يدندن القارئ وكأنه يستمع إليها فعلاً.
“إن الخبز والوطن موضعان للمقارنة الخبز والوطن يشبهان بعضهما إلى حد كبير حيث لا يمكننا العيش دون أي منهما، مع العلم أنه إذا احترق الخبز لا يمكننا أن نأكله، وإن احترق الوطن يأكلنا ويلتهمنا لأننا لم نصن خبزه، علاقة وطيدة جمعتهما دائماً”.
النهاية لم تكن مشجعة جداً بل كانت كما لو أنها قد كتبت على عجل، هو كشف خطوط اللعبة لكنه لم يعط الوقت لتأخذ المشاعر والانفعالات مكانها في هذا الفصل، فالكاتب كان قد أسهب في سرد التفاصيل بطريقة جميلة بعيدة عن الملل ولكن الجزء الذي احتاج لوجود تلك التفاصيل تم تجاهلها بعجالة، كانت ريما في كثير من المواقف مستفزة، حتى في نهاية القصة عند كشف لغز برودها وغموضها لم يكن من السهل أن يُغفر لها أو يتسامح القارئ معها -على الأقل أنا كقارئة- ربما لأن السرد كان من جهة البطل والإيحاءات النفسية احتكرها هو دون أن يكون هناك تكامل بين الاثنين.
“قدر عاجل” تجربة أولى تستحق التقدير والثناء، كاتب اتخذ خطوة جريئة في وقت يدعو كل من حوله إلى أن يحسب حساب كل حركة، قد يكون الفصل الأخير وعجالته حافزاً لفك خيوطها في أعمال قادمة.
عُلا أحمد