التعريف.. بالبلدان!
حسن حميد
منذ مطالع عقد السبعينيات من القرن العشرين المندثر، وحتى يومنا الراهن، نلحظ أن الاهتمام العالمي بأدب أمريكا اللاتينية لا يزال كبيراً، وهذا ما تبديه فاعلية الترجمة، فالغرب تنبه لهذا الأدب فسعى إلى ترجمته إلى لغاته المعروفة لأسباب كثيرة، منها معرفة المختلف في هذا الأدب من جهة، ثم معرفة آثار ما صنعت يداه في تلك البلدان وقد احتلها طوال أزمنة ضاقت على أهلها بظلمتها الحالكة من جهة ثانية. والحق أن الآداب الآتية من بلدان أمريكا اللاتينية فيها دهشة وبهرة، أو قل فيها حياة غنية، وهذا كله بداهة لأن ما من شعب في الدنيا إلا وفي مروياته وفنونه وسروده دهشة وبهرة، وفي حياته غنى، لكن عين الغرب التي تنظر إلى الآخرين من وراء منظار القوة والغطرسة غمطت كل دهشة وبهرة وغنى طوال مئات السنين، وهذه جريمة أخرى تضاف إلى جرائم الغرب الذي احتل الأرض وساس الناس بالبطش والدموية والخوف، لأنه وأد آداباً وفنوناً كانت شعوب بلدان أمريكا اللاتينية تبدعها، ومنها آداب المقاومة وفنونها التي رجمت الاحتلال ودعت الناس إلى الثورة عليه!، ولا أحد يعرف الكثير عن تلك الآداب والفنون، والأجيال الفنية والأدبية التي أبدعتها طوال حكم الاستعمارين الإسباني والبرتغالي، لأن يد المحو كانت شديدة لكل من قال لا للجبروت الاستعماري آنذاك!
قدّمت بهذا السطر لأقول إن بلداناً عدة في أمريكا اللاتينية لا نعرف عنها الكثير، فيأتي كاتب منها له روح جمالية، وحضور إبداعي، وقدرة على الاشتقاق، فيجعل نفوسنا تميل إلى معرفة بلده، ومن هذه البلدان كولومبيا (أكثر من مليون كم2، وأكثر من خمسين مليون نسمة)، وهي في الرتبة الثالثة بين اقتصاديات بلدان أمريكا اللاتينية، وهي من حيث السياسة موالية للولايات المتحدة الأمريكية حتى في أنفاسها، ومن هؤلاء الكتّـاب ماركيز (1928- 2014) الذي لم يسبقه كاتب في بلاده إلى الشهرة التي حازها عالمياً بعد حصوله على (نوبل 1982)، ماركيز هو الذي عرَّف ببلده كولومبيا من خلال قصصه ورواياته والأفلام السينمائية التي كتب نصوصها، شأنه في ذلك شأن حمزاتوف الذي عرّف ببلده داغستان، وشأن طاغور الذي عرف بالهند، وشأن آلان باتون الذي عرّف بجنوب أفريقيا..
ماركيز ليس هو أهم كاتب في بلدان أمريكا اللاتينية ولكنه أشهر كاتب فيها، وذلك يعود إلى قوة نصوصه الأدبية، وإلى فعاليته كمثقف، وصاحب رأي، وروح قادرة على الجذب والتأثير في الآخرين، عاش في بلدان عدة أكثر مما عاش في بلاده، وصادق شخصيات ذات أبعاد عالمية، وكان نجماً في الأفلام الوثائقية، وفي محطات التلفزة العالمية، وصاحب رأي مؤثر في الكثير من القضايا العالمية، مثل كوبا والقضية الفلسطينية، وهذا ما جعل الأكاديمية السويدية تصرح في العلن والخفاء أنها لن تعيد ما فعلته مع ماركيز مع أي كاتب آخر، لأنها منحته الجائزة وهو لم يبلغ من عمره منتصف الخمسينيات، لأنه وافر الحضور والنشاط، وصاحب صلادة ورؤيا.
ليس كل ما كتبه ماركيز، وتناقلته الترجمة، كان مهماً وغنياً بالإبداع، ولكنه كان تعبيراً وافياً ضافياً عن الحياة التي عاشها في كولومبيا، فروايته /مائة عام من العزلة/ لا يمكن وضعها في ميزان الإبداع مساوقة مع روايته /قصة موت معلن/ أو قصة /العجوز بانديرا/ أو /خبر اختطاف/ لأن /مائة عام من العزلة/ نص أدبي شغل بحرائق روحية، ودوافع إبداعية، وصفاء خلاّق، وقد قرأته ذائقات أدبية، جميعها قرّت بأهميته، وماركيز ليس وحده من يليق به توصيف النقاد القائل بالواقعية السحرية، وإنما هناك أعمال أدبية كثيرة سبقت تجربة ماركيز الأدبية.. كانت واقعيتها سحرية وأزيد، ومنها كتاب اللغة الإسبانية الخالد /دونكيشوت/.
بلى، إن الاهتمام بآداب بلدان أمريكا اللاتينية وفنونها هو تمثّل لقولة العارفين: إن الإبداع قارّ في الجغرافية كلها، ورابخ في نفوس أبناء البشرية.. جميعهم!
Hasanhamid55@yahoo.com