بعد كورونا.. تبدلات في الاقتصاد الأسري السوري.. واقتصاديات الشرق الأوسط على موعد مع تحولات ما بعد “الخام”
لأن الاقتصاد هو الاختصاص الأهم في صراعات العلاقات الدولية، لذلك يصبح تسييس الاقتصاديات ضمن تلك العلاقات، من بديهيات هذه العلاقات، ويكون الاقتصاد قويا منيعا كلما كان ذو اكتفاء ذاتي بعيدا عن التبعية والارتهان الدولي. ومن المؤكد أن الاقتصاد ذا القيمة المضافة العالية يكون عامل قوة من ضمن عوامل القوة للدولة، وبالتالي صمام أمان لها في المعادلات الدولية.
هذا ما أثبتته الأزمة “الكورونية” العالمية في تداعياتها وآثارها الاقتصادية الأكثر قساوة، الأمر الذي ينبئ عن تغييرات هائلة في تاريخ البشرية. وقريبا سنشهد بداية لتشكل ملامح نظام سياسي اقتصادي جديد، مختلف كليا في شكله ومضامينه، قد يعد طفرة جنية ستقلب النظام الاقتصادي العالمي وعلاقاته في مجمل تفاصيله.. ثورة كبرى ستكون الثورة الصناعية، مقارنة بها، حدثا عاديا يكاد لا يذكر.
أزمة كورونا المستجد، وبقدر ما أفرزته وفرضته من إجراءات احترازية عالمية شمولية، ودولية محدودة، ومناطقية مكانية ضيقة، ومجتمعية وفردية شخصية مؤلمة جدا، بقدر ما يتوقع أنها ستخلق فرصا عظمى على كل مستويات الأنشطة المالية والاستثمارية والتوظيفية، عالميا وإقليميا ووطنيا، وفي مختلف القطاعات والمجالات، الاقتصادية والصناعية والتجارية والاستهلاكية، المرحلية والاستراتيجية.
على التوازي
في ضوء ذلك، ورغم أن الدولة والحكومة السورية تقومان بما يتوجب القيام به لمواجهة تداعيات هذه الجائحة الكونية، شأننا شأن دول العالم قاطبة، لكن من المؤكد أن ذلك لن يكون على حساب الدراسة والإعداد والتحضير لما هو مطلوب لمرحلة ما بعد أزمة الكورونا، ونقصد بالتحديد اقتصاديا واستثماريا.
اقتصاد الضرورة
قبل الانتقال إلى عنوان المادة، نتوقف عند بعض المنعكسات الإيجابية الملفتة لهذه الأزمة الصحية، على الاقتصاد الأُسَرِي السوري. وهنا يرى الخبير الاقتصادي والإداري سامر الحلاق أن الانعكاس سيكون ممتازا وإيجابيا بشكل كبير، مبينا أنه وخلال الفترة القصيرة القادمة – أقل من شهرين – سيكون هناك تَحَسّن كبير على صعيد الاقتصاد الأسري والمنزلي السوري، وذلك بسبب إلغاء عادات كانت تشكل عبئا كبيرا على الأسرة من حيث الجهد والوقت المبذول والإنفاق المالي، مؤكدا أن الاقتصاد المنزلي سينتقل من اقتصاد العادات والتقاليد الدعائية التبذيرية إلى اقتصاد الضرورة والحاجات، وهذا الانتقال له انعكاس كبير على الاقتصاد الإنتاجي والإبداعي، لأن الابتكار سيكون له دور بارز.
حاجة ماسة
وحول توقعاته حيال مصير الاقتصاد في دول الشرق الأوسط عامة وسورية خاصة، خلال السنوات القليلة القادمة، يؤكد حلاق أنه سيتجه نحو زيادة القيمة المضافة من التصنيع، حيث تتجه اقتصاديات دول الشرق الأوسط نحو تبدلات عميقة وبنيوية في مدى اعتمادها على بيع الخام وشراء التصنيع الجاهز، إذ أن القيمة المضافة الناتجة عن التصنيع أصبحت حاجة ماسة لتأمين مورد استراتيجي في موازنات تلك الدول.
الصراع الأخطر
يلفت الحلاق إلى أن الصراع الأخطر سيكون بين دول التصدير الصناعي ودول الشرق الأوسط التي ستنتقل رويداً رويداً، وببطء شديد – لكن بخطى جدية متصاعدة ومستمرة – إلى زيادة وتكبير حجم القيمة المضافة لخامها الوافر، الزراعي والحيواني والخدمي والطاقوي والسياحي، موضحاً أن هذا التحول – وهنا بيت القصيد – يعود لأسباب جوهرية، منها انخفاض أسعار الخام عالمياً، بشكل عام، ما يجعل بيع الخام لا يحقق أي ربح مقبول نظراً لارتفاع إنتاج واستخراج الخام، الأمر الذي يجعل الدول تحجم عن بيع الخام، وهذا سبب منطقي لأنه لب المنطق التجاري والميزات التفضيلية. إضافة إلى أن المنافسة الكمية للخام المعروض عالمياً تضع المشترين أمام فرص مريحة لهم على حساب العارضين، ما يؤدي إلى شراء الخام بشروط تفضيلية عالية لصالح دول الشراء، إلى جانب زيادة حاجة دول الخام إلى خلق فرص عمل ذات قيمة مضافة كبيرة لتلبية حاجة البطالة التي لاتزول إلا بتصنيع الخام الذي يمتص البطالة كلها. يضاف إلى ذلك أن إمكانية سد عجز الموازنات بالطرق التقليدية أصحبت صعبة ومكلفة للغاية، من حيث شروط الائتمان والتبعية والشروط التجارية المرهقة لتنظيم الديون والائتمان، كما وأصبحت دول الخام مُجبَرة على التصنيع لكي تقوم بتوطين الخبرات والاتجاه نحو الاقتصاد المكتفي، ولو بشكل نسبي خشية تأثرها بأية عقوبات مستقبلية. وستزيد الشركات العالمية من استثماراتها في دول الخام بسبب ارتفاع نسبة ربح التصنيع في دول الخام وهروب الشركات الكبرى من مناطق الجمود الاقتصادي لجهة افتتاح استثمارات بديلة في دول الخام.
تغير الاعتمادية
إن التبدلات أعلاه، سيتبعها تغير شامل في أنماط السلوك الاجتماعي لسكان دول الخام في الشرق الأوسط بسبب تغير الاعتمادية من بيع الخام إلى بيع المصنوع، وهذا التبدل سينعكس إيجاباً لجهة الأبحاث العلمية وتراكم الخبرات التي ستزيد من إجمالي القيمة المضافة للمخرجات النهائية.
وليست هذه التغيرات رغبة من القيادات الاقتصادية للدول بل لأن الأزمات الاقتصادية فرضتها، وبالتالي تنتفي صفة “الفاعل المؤثر” عن حكومة دول الخام، لأن هذا التبدل كان متاحاً منذ عشرات السنين، ولكن تلك القيادات لم تفعله أبداً، فهذه التبدلات ستكون بفعل العطالة الميكانيكية لعجلة الاقتصاد والقوى النابذة داخل الاقتصاد، وليس غير ذلك.
اقتصادنا قادر
إن الاقتصاد السوري – بحسب خبراء اقتصاديين- أصبح الآن لديه القدرة على مواجهة الصدمات محلياً وعالمياً، فهو اقتصاد غير منكشف أو معتمد على نمط أو شكل معين في الإنتاج والاستثمار أو في الزراعة والخدمات، بل هو اقتصاد متنوع يعتمد في أجزاء كبيرة منه على الموارد المحلية المتنوعة أصلاً والمتقاربة في المسافات، والمعتمدة على ثلاثية “الإنتاج – التخزين – التسويق”، وهي رغم كونها طريقة تقليدية تجاوزتها أساليب البيع الحديثة إلا أنها – في ظروف الأزمة – تبدو الأفضل لحالات حظر التجول الكلي أو الجزئي، كما أن الأزمة التي مرّت على بلدنا منذ عام 2011 منحت الاقتصاد السوري، رغم جميع الخسائر، مناعة أكبر على صعيد ارتدادات الأزمات العالمية وحتى المحلية.
قسيم دحدل