جوهر الحياة ومرادها في قصص الأطفال
عالم الحكاية مليءٌ بالتشويق والإثارة، واستنهاض كل ما في نفس المتلقي عموماً والطفل خصوصاً من مكامن الشوق للإنصات، لطالما أثّر فينا وجذبنا لعذوبة كلماته وأنماط الخيال الخاصة به، فترانا نتحلّق حول الراوي (جدة أو أحد الوالدين أو المعلمين) لنشرب من سيل الشفاه ذاك الدفق السحري الآسر (رحيق الحكاية)، لنعاود مراراً وتكراراً كل صباح وكل مساء وفي كل الأوقات التحلق حول الرواة، لتطير أفئدتنا وأرواحنا بأجنحة شفيفة وتخفق حول الراوي كفراشة تائهة تدور حول مصدر باعث للضوء، وترقص بكلّ ما أوتيت من قوة وشغف وغواية. غالباً ما تكون كلمات مفتاحية مثل (كان يا مكان) أو (حدث في زمن مضى) بمثابة تعويذة سحرية تشنّف لها آذان الصغار والكبار على حد سواء…
كيف لا؟ وهذا هو وقت اللقاء مع الخيال وجهاً لوجه، هذا وقت الاستعداد لامتطاء صهوة الحكاية والتحليق عالياً أو الإبحار عميقاً في فسحتها الرحبة، والاغتراف من كل ما هو جميل وبهي… كيف لا؟ ونحن جميعاً تعلمنا أنه وبعد هذا التمهيد سيأتينا نهر هادر من الكلمات المحبوبة والومضات الروحية، فنحن الآن أمام بوابة الحكاية والعتبة الأولى من عتبات رحلة التشويق والإشراق.
ندخل لنبحث عن جوهر الحياة والوجود الخاص بكل واحد منا، والتفاصيل الخاصة التي نحاول جاهدين إسقاطها على حياتنا من خلال الاقتداء بالبطل الملهم.
تدهشنا الحبكات المبنية على الصراع مع الغيلان والوحوش والساحرات يلهب حماسنا انتصار البطل والخير والحق، يؤلمنا في كل حين فعل الشرير وخسّة المعارضين للحق والخير، ونتعاطف مع الضعيف والمظلوم والأميرة المسجونة، جوهر الحكاية يكمن ها هنا… من إدراكنا الخفي أننا أبطال الحكاية نفسها بمجرد أن نستمع لها… ونتتبع فصولها ونعيش رحلة البطل فيها، لنعيش تفاصيلها ونتمثل بطولة الأبطال وننبذ أخلاق وتصرفات الأشرار، نبحث عن أميرتنا الخاصة لنخلصها من سجن التنين والساحر المشعوذ الشرير، ولنبذل في سبيل الوطن والشرف والكرامة كل ما نملك، نمتطي أحصنتنا الخشبية وأعواد الخيزران وأعواد المكانس لنجري هنا وهناك ونحن نهتف لتمجيد الشرف النبيل المرام، ونحقق انتصاراتنا المذهلة على الوسائد وأكياس القماش وجذوع الأشجار المنتشية طرباً بضربات سيوفنا خشبية كانت أم بلاستيكية…
خصوصية كاتب الأطفال المبدع تكمن في قدرته على إدراك هذا الجوهر للحياة والانطلاق بكلماته وحروفه نحو المراد… والمراد هو جعل البطل أيقونة يسهل إتباعها وتقمصها من قبل الأطفال، ليسهل عليه حينها صنع النموذج المحتذى للبطل ولتحميله فيما بعد كل ما نريد من قيم إيجابية تليق بثقافتنا السورية النبيلة ونجعله في مواجهة كل ما من شأنه أن يعيب بطلنا الصغير (الطفل المتلقي)
ـ الحياة بجمالها وألقها وعنفوانها هي كل ما نريده لطفلنا السوري لنبعده بطريقة ذكية متقنة الحياكة عن إرهاصات وظلام وسوء المرحلة الراهنة والبعد عن التمثل والاقتداء بأبطال الغير وخلق أبطال محليين سوريين بكل تفاصيلهم… وندفع به وبأبطال حكايته نحو التحصن بقوى وهبات وأعطيات مقدمة من قبل (المنتور)* الخاص به للتغلب على حرّاس العتبات وكل المعوقات الحائلة بينه وبين الهدف في الحكاية.
-ونمزج بين الواقعية من عقل وعلوم واجتهاد وبين ما هو سحري خارج عن المألوف والطبيعي، لتكون الوجبة المقدمة في الحكاية فيها الكفاية المرجوة للطفل من تحريك للخيال مع تمسّك بالواقع…فالمراد في الحياة (حياة البطل في الحكاية) هو أن نجعل الطفل المتلقي للحكاية وسط هذا الفيض العارم من الأحاسيس في كل حكاية، لا ينسى أنه يعيش حياته الواقعية خارج حدود هذه الحكاية، ليشعر بنفسه وكأنه البطل نفسه المخلص والمنقذ والمختار لرعاية أهله وذويه ووطنه وليجترح المعجزات ويعود من كل مشوار يسلكه بالإكسير الناجع وينقذ الأميرة المأسورة.
-حين نصل إلى هذه النقطة المهمة من الوعي لمتطلبات حكايتنا نكون قد أمسكنا بجوهر الحياة المقدمة لأطفالنا وبالمراد من هذه الحكايات، وإلا كانت قصص الأطفال والكتابات لهم مجرد حروف عابرة لا تبقى في ذهن أطفالنا لأكثر من ليلة واحدة.. ويغيب أبطالها في زوايا النسيان.
نستخلص في النهاية هذه القاعدة الذهبية: جوهر الحياة في الحكاية والقصة المقدمة للطفل ومرادها الرئيسي يتجلى في إيجاد البطل والرحلة الخاصة به بشكل جيد، يجعل فعل هذا الأمر مؤثر في وجدان الطفل وقادر على حل المشكلات النفسية ومطهر للروح وباعث على الأمل ومخلص من آلام المحيط ومخاضاته وعراقيله المتعلقة بحياة هذا الطفل.
-* المنتور: في الأوديسة (منتور) هو الشخص الذي تكفل بأن يقود البطل (تيليماك) في رحلته الأسطورية، ولعب دور الحامي له في كل خطواته.
رامز حاج حسين