“مغطّس بالشّوكولا”: بنية متشظّية بلا هويّة
شهدَ القولُ الشعريّ تحوّلاتٍ فنّيّة وفكريّة كثيرة وكثيفة خلال رحلته التاريخيّة الطّويلة من العتمة إلى الضوء، والعكس. من التّشكّل الأجناسيّ إلى اللّاتشكّل. من الإيقاع الخارجي، إلى الهمس الدّاخلي إلى اللّا إيقاع. وهذا بدوره غيّر من طبيعة وظيفتي الإنتاج والتّلقّي. حيث غدا مطلوباً من المتلقي ومنتج النصّ، تطوير وسائلهما، من خلال امتلاك الذائقة والحساسية، بما يتناسب ومتطلّبات المرحلة الفنيّة الجديدة، حيث غدا القارئ مشاركاً في إعادة إنتاج النصّ بقراءته التفاعليّة المثمرة، ثمّ مع تداخل الأجناس الأدبيّة، واستثمار الفنون لأدوات بعضها البعض عبر التّوظيف والامتصاص والهضم، والتّجريب الذي روّجت له مرحلة ما بعد الحداثة، ومدارس التّجديد النقديّة “البنيويّة، التّكعيبيّة، السورياليّة التّفكيكيّة” تكوّنتْ لدينا خارطة جديدة للقول الشّعريّ، هي الكتابة النصيّة، أو ما يمكن تسميته بـ “النصّ المفتوح” القائم على التّشظّي وعدم وضوح البنية أو الهويّة الأدبيّة، وهذه ليستْ رؤية ضدّه، بل مجرّد توصيف لمولود تجريبيّ يحاول أن يجد له مكاناً تحت الشمس. من هذا المنطلق أرى أنّ ثمّة تناقضا بين ما خُطّ على الغلاف التّصديري لمجموعة “مغطّس بالشوكولا” للشاعر ماهر راعي طباعة “دار نينوى” 2019 م تحت مسمّى “شعر” والأجدى أن يُقال “نصوص”، لما تحمله دلالة النّص من شموليّة واتّساع قابل لاحتمالات شتّى، قد يُختَلف حول موضوع شعريّتها كثيراً. نصوصٌ تحاول استرجاع مفردات الطفولة وما تكنزه من عوالم مجنّحة لم يلوّثها التقعيد بعد، حيث كلّ ما يثير اللّذة الجماليّة والمتعويّة في النصّ المهضوم، ويغري بقضم فاكهته، وارتشافِ عصيره، هو أشبه بتلك الطبقة الشّهيّة من الشوكولا التي تغلّف أحلام الأطفال ومأكولاتهم. يقول الشاعر: (ربّما هكذا ننسى نحن الكبار كيف يُكتبُ الشعر، يشغلنا كوي قمصان الجدّية ذات الحدّ المقيت، بينما صغيري لا يشكّ للحظة أنّ أيّ كنزة حمراء في العالم لابدّ تفوح منها رائحة الفراولة).
أعتقد أنّ النصّ الجديد ليحوز على الشعريّة المطلوبة ،لابدّ لخلطته الفسيفسائيّة الجديدة، أن تحافظ على معياريّة فنّيّة معيّنة قبل كلّ شيء، إذْ ثمّة جوهر شعري تختزنه اللغة بطاقتها وحيويّتها العالية، لا يمكننا التّضحية به أمام أيّ تجريبٍ محتمل. جوهر يفصله عن النثريّة الجافّة، يتمثّل في التكثيف والاقتصاد والانزياح الجمالي، الذي يؤدّي دوره، بإقلاق وخلخلة بنية النصّ، محدثاً فجوة غير متوقّعة، تخلق مساحة من التّوتّر والدّهشة في مخيّلة القارئ، تساهم بخلق الحالة الشعرية المتوخّاة الـ”شوكلاتيّة” المذاق إن شئت. يقول الشاعر بسرديّة واضحة: (عادة أكتب في وقتٍ غير مناسب، حين تكون الضّباع جائعة تجوبُ العتمَ البارد، تمرّ قربي مصادفة فيبلّل لعابهُا سترتي…). ثمّ يمضي في الوصف الذي يوقف حركة الزمن وحيويّة الصورة الشعرية، قائلاً: “حين تكون العصافير.. والسّمكُ مشكوماً قرب قططٍ مندهشة على الشّاطئ، حتى حين أبحث عن قلم أو ممحاة. أجدُ جثثاً..الخ.”
هذه البداية أراها تتلاءم وملامح قصّة قصيرة، أكثر من تلاؤمها مع نصّ شعريّ يتطلّب التكثيف والاقتصاد اللغوي، والتخفّف من أدوات الربط، بما يكسر أفقيّة الجملة النّحويّة ومنحاها الخيطي السائر نحو مألوف لا انزياحَ فيه، يُبعد مخيّلة القارئ عن عوالم ومفردات الطفولة الممتلئة بالانزياح عن المألوف. ثمّ ماهو الدّور الشّاعري لمفردة “الضّباع” التي تبلّل سترة الشاعر، أهي ضباع أليفة إلى هذا الحدّ؟!. في الوقت الذي لا يمكنها أن تثير سوى الفزع الشديد. وإغلاق فضاءات التّخييل، ليطغى البكمُ على كلّ شيء.
في نصوص “مغطّس بالشوكولا” تسود التّشابيه بدل الاستعارات، والانزياحات الجماليّة التي تمنح النصّ حيويّته الشعريّة القابلة للتأويل: (سأحذفُ كلّ صوري التي أبدو فيها مثل مستنقع، ففي واحدة ناجحة تشبهني كثيراً، انتبهتُ فجأة إلى ضفادع تتقافز بمللٍ من عينيّ، وفي الثانية كانت لحيتي وحلاً أسود، وملامحي علباً فارغة (….) سأحذف تلك التي أشبه فيها مئذنة واقفة دون سبب مقنع قرب البحر، ماذا تفعل مئذنة قرب البحر!). لم تعلِ الغرائبيّة الشّكليّة لخروج الضّفادع من العينين، أو الوحل الأسود الذي يغلّف اللّحية، ولا الملامح التي اتخذتْ شكلَ العلب الفارغة. من مكانة الصّورة الشعريّة التي بقيتْ مباشرة. وحدَهُ السّؤال المفاجئ هو من كسر أفقيّتها الإيحائيّة، وخلخلَ أفق توقّع القارئ، محدثاً الشّعريّة المطلوبة، حيث ظلّتْ الصّورة مألوفة حتى أقلقها السؤال الذي أدهش الشاعر وأدهشنا، ماذا تفعل مئذنة قرب البحر؟!). وهاهي الغرائبيّة، تعودُ بمقطعٍ آخر لتؤدّي دورها الشعريّ المطلوب بما أحدثته من انزياح عن المألوف عبر لعبة أسلوبيّة تجلّت بقلب طرفي المعادلة، حيث الشارع هو من يعبرُ الناس، لا العكس، والمكان كائن عاقل يمكن مخاطبته. باستنكار عدم إلقاء الشارع التّحيّة على الشاعر: (يمرّ الشارع، فأهمسُ بحزن لواجهة محلٍّ ما، انظري لم يرمِ التحية عليّ) لكنّ الغرائبيّة ذاتها في نهاية المقطع، لم تسعفْ الشاعر بتفعيل الصورة الشعريّة: (.. ونهدر ما تبقى من ذئابٍ حلوةٍ في جيوبنا). فكيف لنا أن نتخيّل ذئاباً حلوة في الجيوب؟ .
نهاية، نودّ اختتام قراءتنا للنّصوص القابلة لقراءات مختلفة، حسب ما أتاحته لنا مساحة النّشر، بهذا المقطع الشعري النّافذ الرؤية، يقول الشاعر: (سأركضُ خارج الخندق، سأركضُ في العراء المشترك، هناك حيث سيتكوّم في جسدي، رصاص الجهتين).
أوس أحمد أسعد
قراءة نقدية بناءة ممتعة.. سلمت يداك صديقي العزيز أستاذ أوس أسعد