التشغيل المبكّر للأطفال.. ظاهرة خطيرة تفتك بالأسرة والمجتمع
رغم تعدد الآثار الاجتماعية والنفسية التي شكلت إحدى تداعيات الحرب العدوانية، والتي طالت جميع الشرائح العمرية والمهنية والمجتمعية بما حملته من منعكسات مباشرة وغير مباشرة، كان الأطفال هم المتضرر الأكبر في جوانب عديدة، حيث لا يخفى أن الظروف الراهنة شكلت أرضية خصبة لظاهرة تشغيل الأطفال، أو ما يعرف بعمالة الأطفال، بما يعدّ تبديداً مبكرا لطاقاتهم وقدراتهم على حساب دراستهم وتعليمهم.
حالات
وفي هذا السياق كان لمديرية تربية اللاذقية جولات ميدانية من خلال لجنة متخصصة مهمتها الكشف على حالات تشغيل الأطفال في المنطقة الصناعية والمحال الصناعية والحرفية وأسواق الهال لمكافحة عمالة الأطفال، في اللاذقية، وضمت اللجنة التي تمثلت بالدوائر المعنية ممثلين مختصين للبحث عن واقع ومآل وأسباب تشغيل هؤلاء الأطفال. وقد قامت هذه اللجنة “لجنة الطواف” في شعبة التعليم الإلزامي في مديرية التربية برصد حالات تشغيل الاطفال في المنطقة الصناعية، قبل صدور قرار الإغلاق ضمن الإجراءات الاحترازية والوقائية التي اتخذت لمواجهة فيروس كورونا، ورصدت قيام بعض أصحاب المحلات بتشغيل أطفال في سن التعليم الإلزامي.
وأوضح رئيس شعبة التعليم الإلزامي في مديرية التربية جهاد درويشو أن اللجنة رصدت في خمسة محال ١٦ طفلا في عمر الصفين الخامس والسادس يتم تشغيلهم بشكل غير قانوني، مشيرا إلى أن حصيلة جولات العام الماضي أسفرت عن ٢٧٦٧ حالة فاقد تعليمي ممن يجب ويفترض أن يكونوا على مقاعد الدراسة. وقال درويشو: لذلك نواصل الجولات لأن عناوين بعض الأهالي مجهولة لدى المديرية حيث يطرأ تغيير على عناوين أهالي الأطفال الذين يتسربون من التعليم الإلزامي، وفي الوقت نفسه يتم الضغط على أصحاب المحال لأجل عدم تشغيل أطفالهم، لاسيما أن جميع هؤلاء يتم استثمار طاقاتهم بما يفوق إمكاناتهم وأعمارهم، وبعيدا عن كل شروط الرعاية الصحية والسلامة العامة، ويتم تشغيلهم بأجور زهيدة جداً ولاسيما أن أعمارهم لا تسمح بتأمينهم، وهذا ما يجعل أصحاب العمل يستقطبونهم ويفضلون تشغيلهم على الكبار لأجل عدم الالتزام بكل الشروط المهنية والتأمينية والأجور المناسبة.
ظاهرة خطيرة
وللتعرف أكثر على مخاطر وأضرار التشغيل المبكر للأطفال، توجهنا بالأسئلة إلى لدكتورة يسرى زريقة، أستاذ مساعد في جامعة تشرين، والتي أكدت أن ظاهرة عمالة الأطفال تعدّ من الظواهر الخطيرة التي لها تأثيرات سلبية على المجتمعات. وتعرّف ظاهرة عمالة الأطفال بأنها استغلال الأطفال دون السن القانوني للعمل والقيام بأعمال لا تتناسب مع قدراتهم العقلية والجسدية لغرض منافع اقتصادية. ويعتبر الفقر والعوز من أهم الأسباب التي تدفع الأطفال إلى العمل، وتعتبر سورية من البلدان التي أخذت تنتشر فيها عمالة الأطفال بسبب الحرب والحصار الاقتصادي وما نتج عن الأزمة من تهجير وتدمير للمدارس والمنشآت والمنازل. ورأت الدكتورة زريقة أن خروج الأطفال للعمل يعدّ من أكبر المشاكل والأزمات التي تواجه مجتمعنا، فثمة منظمات، أو تنظيمات، تستغل الأطفال وكأنهم مصدر لجني الأرباح وحسب، وثمة أهل يدفعون بأولادهم إلى “العمل” على تقاطع الطرق والمستديرات لجمع غلة يعودون بها ليلاً إلى المنزل.
تهديد
وأوضحت الدكتورة زريقة أن هذه الظاهرة تعد من أخطر الأزمات التي يتعرض لها العالم بأسره، ذلك أن تشغيل الأطفال وتسخيرهم في أعمال غير مؤهلين، جسديا ونفسيا، للقيام بها له مضار على المجتمع بأكمله وليس الطفل العامل وحسب، فهو عمل يهدد سلامة وصحة ورفاهية الطفل،كما يستغل ضعفه وعدم قدرته على الدفاع عن حقوقه، ويسخر الأطفال في عمالة رخيصة بديلة عن عمل الكبار.
أسباب
وتبيّن الدكتورة زريقة أن لعمل الأطفال أسباباً كثيرة من أهمها انخفاض المستوى الثقافي والتعليمي للأسرة وانتشار الفقر بشكلٍ كبير، ما يدفع الأطفال للعمل لمشاركة أسرهم في الإنفاق، إضافة إلى قلة الثقافة الموجودة فيما يخص قوانين عمالة الأطفال، وانتشار الحروب والأزمات الاقتصادية بشكلٍ كبير، والنظام التعليمي السائد الذي يدفع بعض الأطفال إلى ترك الدراسة نتيجة وجود بعض المظاهر السلبية فيها، ومنها معاملة بعض المعلمين لهم بشدة، وعدم وجود الرغبة الجدية في الدراسة وعدم المقدرة على التحصيل الدراسي الجيد.
آثار
وأشارت الدكتورة زريقة إلى أن عمل الأطفال قد يتسبب بأضرار كثيرة لصحة الطفل ونفسيته منها ضعف في تطور النمو الجسدي للطفل وعدم تناسق في جسم الطفل من الناحية العضوية، بالإضافة إلى حدوث بعض المشاكل في البصر والسمع، ووجود الجروح والكدمات في الجسم نتيجة العمل الشاق، والتعرض للوقوع من الأماكن المرتفعة في بعض الأحيان، والصعوبة الواضحة في التنفس نتيجة التعرض للغازات السامة، وقلة التطور المعرفي حيث تتأثر قدرات الطفل بشكلٍ سلبي نتيجة عمله، وانخفاض في التطور العاطفي حيث يقل احترام الطفل لذاته ويقل ارتباطه وحبه لأسرته كما يقل ارتباطه بالآخرين. والسبب في ذلك يعود إلى بعده عن أسرته، ونومه في مكان العمل في بعض الأحيان، وتعرضه للعنف من رب العمل أو من زملائه، وانخفاض تطوره الاجتماعي والأخلاقي.
وحول واقع عمالة الأطفال في سوريةـ، قالت الدكتورة زريقة: تنتشر ظاهرة عمالة الأطفال في بلدان العالم كافة، لكن ما يميزها في سورية هو الارتفاع الكبير في عدد الأطفال العاملين بالمهن المختلفة، لأسباب كثيرة ساهمت في انتشار هذه الظاهرة. ولعل الحرب هي السبب الرئيسي، وما نجم عنها من أسباب أخرى كارتفاع معدلات الفقر وانخفاض مستوى الدخل الشهري للأسرة، فضلاً عن الغلاء الكبير في الأسعار نتيجة تدهور الليرة السورية، ونقص المواد الأساسية في الأسواق، وغير ذلك من الأسباب.
التحاق مبكّر
وأكدت الدكتورة زريقة أنه في ظل الحرب وتأثر الوضع المعيشي والاقتصادي، اضطر كثير من الأطفال للالتحاق بسوق العمل، إما ليعيلوا أهاليهم أو أنفسهم، ما كان له آثار سلبية عديدة على الطفل. وحسب تقارير الأمم المتحدة، فقد قدرت نسبة الأطفال السوريين العاملين بـ 20% من إجمالي نسبة العاملين، مقارنة بـ 10% قبل الحرب على سورية، ما يعني أن عدد الأطفال الذين دخلوا سوق العمل تضاعف في ظل الحرب العدوانية الظالمة.
أما أنواع الأعمال التي يمارسها الأطفال، فهي في الأغلب أعمال متعبة وشاقة، ولا تتلاءم مع بنية الطفل الضعيفة، فمنهم من يمارس نقل البضائع وتحميلها، ومنهم يمارس أعمال صيانة السيارات والميكانيك، ومنهم من يبيع أشياء بسيطة على مواقف السيارات, ومنهم من تم استغلاله لحمل السلاح في المناطق الواقعة تحت سيطرة العصابات المسلحة.
دوافع
أما الأسباب التي تدفع الطفل السوري للعمل فهي، في الغالب، كما أوضحت زريقة، حاجة الأبوين للمال مع ضعف الدخل اليومي مقارنة مع النفقات العالية بسبب غلاء الأسعار الكبير الذي تشهده البلاد، ما يدفع رب الأسرة الفقيرة لتشغيل أولاده ليساهموا معه في تأمين لقمة العيش. كما أن بعض الأسر السورية فقدت الأب المعيل بسبب الحرب، فبقيت الأم مع أطفالها اليتامى لتعاني الأمرين، حيث قدرت بعض الإحصائيات عدد الأيتام السوريين بـ 100 ألف طفل، 90% منهم غير مكفولين، وهو ما يدفع الأم إلى ممارسة أعمال غالباً ما تكون في المنزل، في حين يساعدها أطفالها الصغار ويعملون لتأمين احتياجات الأسرة. وهناك الأطفال الأيتام الذين فقدوا الأب والأم، فقسم منهم تكفلت بعض المنظمات بإيوائه في دور الأيتام وأمنت له جميع مستلزماته من مأكل وملبس وتعليم وعناية طبية، في المقابل فإن الكثير من الأيتام لم يحالفهم الحظ، واضطروا للإقامة عند أقاربهم الذين، بدورهم، يدفعون ببعض هؤلاء الأيتام إلى سوق العمل للمساهمة في زيادة دخل العائلة المستضيفة.
الحلول
وحول سبل وآفاق الخروج من هذه الأزمة، أوضحت الدكتورة زريقة أن هذه السبل تتجلى أولاً في الحد من الفقر والبطالة من خلال معالجة المشاكل المتعلقة بالأسرة من فقر وبطالة، وتوفير الاحتياجات الأساسية، وبعدها نحتاج قدرا من الشجاعة لوضع قوانين من شأنها معاقبة الأهل في حال قيامهم بدفع أبنائهم صغار السن للعمل، وثانياً ضرورة تفعيل دور المنظمات الدولية فيما يخص الاتفاقيات المتعلقة بعمل الأطفال خصوصا، وحقوق الطفل عموما. وقد ضبطت سورية عمل الأطفال في سياق قانون العمل رقم 17 لعام 2010، والذي حمى الطفل وعالج مشكلة تشغيل القاصرين من خلال تشكيل لجنة لمنع تشغيل تلك “الفئة” في كل محافظة، وتقوم اللجنة بجولات ميدانية أسبوعية لمراقبة تطبيق القانون، وتنظيم الضبوط بحق المخالفين، وفي حال تكرار المخالفة تغلق المنشأة مدة ثلاثة أشهر.
تفاعل الإعلام
وتركز الدكتورة زريقة على ضرورة وجود حملة توعية للجمهور والأهل والأطفال أنفسهم وأصحاب العمل وصانعي القرار بالمخاطر النفسية والجسدية والعقلية على نمو الطفل، وما قد يتعرض له الطفل من مخاطر أثناء العمل، واكتساب العادات السيئة وصولاً إلى مرحلة الانحراف والجريمة.
أخيرا، فإن ظاهرة خروج الأطفال إلى سوق العمل في مثل هذا السن تعد من أسوأ الظواهر السلبية في حياة المجتمع، وهناك ضرورة ماسة لتكاتف جميع الأجهزة المعنية للقضاء على هذه الظاهرة، والعودة بأطفالنا إلى ما يجب أن يلقوه في سنهم من رعاية واهتمام، وإعدادهم للقيام بدورهم الايجابي في بناء المجتمع، فالأطفال هم أمل الشعوب في البقاء والاستمرار.
مروان حويجة