كورونا.. و”تكديس الغذاء”
عمر المقداد
مع انتشار فيروس كورونا الجديد، كانت مقطع الفيديو الأكثر مشاهدة في دول العالم، بعد مقطع توابيت الوفيات في إيطاليا، لقطات الهجوم غير المسبوق من الأشخاص والعائلات في دول العالم المتحضّر، أكثر من المتخلّف أو الثالث، على متاجر المواد الغذائية بهدف شراء وتخزين أكبر كمية منها.
كان منظراً دافعاً على القلق، وخاصة مع انتشار أخبار مرافقة مثل “من دون الإمدادات الغذائية ستنهار المجتمعات وتأكل بعضها” إلى الحديث عن “تأثير طويل المدى زمنياً للقضاء على الفيروس”، فقد دخلت دول وحكومات على مصطلح “تخزين المواد الغذائية” وبدأت تطبيق إجراءات “شراء وتقييد ومنع” على حركة المواد الغذائية، وتحوّلت شركات عابرة للجنسيات والقارات من نشاطها التقليدي إلى نشاط التخزين.
في قائمة الدول، تبرز كازاخستان مثالاً ساطعاً، وهي من أكبر بائعي القمح والدقيق في العالم، فقد قرّرت حكومتها حظر بيع وتصدير القمح، وأصدرت قائمة ممنوعات تتضمن إلى جانب الدقيق، كلاً من الجزر والسكر والبطاطا.
وأوقفت فيتنام بشكل مؤقّت تنفيذ كل عقود تصدير الرز، ومنعت صربيا تدفق زيت عباد الشمس وسلع كثيرة، وقالت روسيا أكبر اقتصاد موارد في العالم: إنها تجري تقييماً أسبوعياً للوضع، وقد تقرّر حظر شحن المواد الغذائية بأي لحظة، وقرّرت الإدارة الأمريكية ضخ 2000 مليار دولار لتحفيز الاقتصاد، تحسباً من “كساد كبير” منتظر، فيما هرعت دول كثيرة إلى طرح مناقصات عقود شراء كميات ضخمة، وبعضها أعلن عن رفع رسوم الجمارك والاستيراد بشكل جزئي أو كلي.
هذه بعض المؤشّرات وليست كلها، ويبدو مع استمرار تصاعد حمى الإصابات والوفيات والحديث عن موجة ثانية وثالثة، ستكون هناك مؤشرات متواترة في الأفق، وقد نصل في لحظة ما إلى أزمة وفيات بسبب “تكديس الغذاء” المتوافر أصلاً، وليس بسبب كورونا.
بالتوازي مع تلك المؤشرات، بدأ الحديث في مراكز الدراسات وصنع القرار عن موجة جديدة من الصراع القومي أو الدولي، وهذه المرة على “الغذاء” دعونا نذكر فقط بأن الموجة السابقة التي أوجدتها فكرة “تكديس الثروات” عند البعض قد أنتجت الاستعمار الكولونيالي التي غيّرت خريطة الدول في العالم، والسؤال الجدير طرحه الآن: إذا كانت فكرة “تكديس الغذاء” ستؤدي إلى تعطيل توريد السلع والمنتجات بين الدول وداخل الأسواق، ووقف جزئي أو كلي للتبادل التجاري العالمي كله، فهل ستؤدي أيضاً إلى استعمار كولونيالي جديد بذريعة “السيطرة على الغذاء”، خاصة وأن أصحاب الرؤوس الحامية في الغرب يتخذون قرارات بهدف إنعاش شركاتهم العملاقة أكبر بكثير من قرارات إنعاش حياة الأفراد والمجتمعات.
قد يبدو الارتهان إلى الجواب بـ”نعم” أمراً مزعجاً وربما كارثياً، لكنه أمر متوقّع.. دعونا نذكر أيضاً بأن الغرب المتوحش شن عشرات عمليات الغزو لدول العالم الثالث تحت مسمّيات كاذبة، وكانت كلها بهدف نهب الثروات، وقد فعل الغرب ذلك في أوج بحبوحته، أفلا يعيدها وهو متورم؟!
أكثر من ذلك، أعلنت دول كبرى حالة الإغلاق، والإغلاق هنا بمضمونه الاقتصادي، وليس الاجتماعي، وقد قرّر ترامب على سبيل المثال تفعيل قانون “الإنتاج الدفاعي” وهو قرار اتخذه على الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية، الاقتصاد الأقوى في العالم، ولديها وفرة هائلة في المخزونات كلها، وخاصة الغذائية.
اللافت أن منظّري الحروب والكوارث، في مراكز الدراسات تلك، انهمكوا خلال الأيام الماضية بعقد طاولات مستديرة وإطلاق مفاهيم ومؤشرات تخدم خططهم، مثل ظهور “عقبات لوجستية في انتقال السلع” و”الذعر في عملية الشراء والأسواق” و”خطر أزمة العمل” وصولاً إلى مؤشر خطير جداً، وهو “الانتقائية في علاج مصابي كورونا”، حيث مع انهيار النظام الطبي والصحي في إيطاليا وإسبانيا، فقد جرى تصنيف الإصابات إلى فئة أولى هم “الشباب” ولهم الأولوية في العلاج، والسبب أنهم يد عاملة تحرّك الاقتصاد وهم “الحاضر”، ثم “الأطفال” وهم درجة ثانية لكنها مهمة لأنهم “المستقبل” ثم إلى “كبار السن” وهم درجة ثالثة وليس ضرورياً أن تتم معالجتهم، لأنهم “الماضي”.
والغريب أنه بينما تعمل دول لمكافحة الفيروس من خلال قرار “العزل الاجتماعي” بأن تبقى كل عائلة داخل منزلها، فإن قرار “التباعد الاجتماعي” في دول الغرب الرأسمالي يطالب بتباعد سكان البيت الواحد عن بعضهم، كي يموت من يموت ويبقى الأكثر جدوى للاقتصاد.
في هذا السيناريو، ثمة من يعرف ويخفي، لا بل ويحاول إطلاق فلسفة “الذعر”.. يقول أكاديمي أمريكي: إذا كنت تشعر بالذعر من الشراء في السوق، فسوف تخطط لمشتريات أكثر، وسوف ترتفع الأسعار، ومع ارتفاعها، سيصاب صانعو السياسة بالذعر”.
وبالعودة إلى الأمثلة، فقد أدى ارتفاع أسعار الخبز بين عامي 2008 و2011 إلى اضطرابات وأعمال شغب وعدم استقرار سياسي في 30 دولة في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، وقد حدث هذا من دون الأخذ بالاعتبار عوامل أخرى وبعضها خطير.
المشكلة أنه مع تلك السياسة الحمائية، فقد يصيب التلف المنتجات والمحاصيل بسبب كسادها أو تكديسها وربما تقنينها ومتوالية ارتفاع أسعارها، وليس بسبب قانون “العرض والطلب”، وقد نجد أنفسنا أمام بضعة دول ذات إمكانات ضخمة أو حفنة شركات عابرة للقارات، وقد عادت تقدّم نفسها على أنها شرطي العالم في دور استغلالي جديد.
أخيراً، فإن البشرية أمام تحد حقيقي لتضامنها الاجتماعي وليس إلى تباعدها الاجتماعي، وقد انكشف التضامن الأوروبي على حقيقته الكاذبة، مع امتناع دول الاتحاد عن مساعدة إيطاليا وإسبانيا المنكوبتين، وتواجد روسيا والصين وكوبا، في مفارقة غريبة ولم تكن على بال، ولعل من يراقب حركة وقرارات حكومات الغرب يدرك في أي مسار تريد أن نسير!!