على إيقاع السيدة “كورونا”!؟
د. نهلة عيسى
تحاصرنا هذه الأيام كل الأشياء: الجدران, الملابس, السقوط تحت حدود الكفاف, والعري الأخلاقي, الذي أظهر أن كل واحد منا قارة, وكل واحد منا نبي, وأننا كشعب جاهزون للانتحار, فقط لنثبت أننا غير الآخرين, وأننا مختلفون, رغم أن السيدة “كورونا” التي على إيقاعها نسير, لم تصدر فرماناً تحدد فيه مقامات البشر, وأيهم عليها هين, وأيهم عليها عَصي!؟.
والحقيقة أن ما يجري منا لنا يذكرني بالسنوات التسع التي حاصرتنا فيها شظايا تصريحات البعض منا, خاصة تعبير “انتصرنا”, الذي استخدم بمعنى وبلا معنى, وفي سياقات مختلفة ومتعارضة, وأحياناً خارج أي سياق, لزرع ألف تساؤل في وجه الذاهبين إلى الصدق من بيننا, ولإخماد أصوات الموجوعين منا, مما آلت إليه أحوالنا بفعل المتاجرين بالكلام, الذي بات مطاطاً لسراويل خيباتنا, ربما يستر عورة, ولكنه يكشف ألف عوار.
“انتصرنا”, والآن “نحن منيعون” رغم أن الدولة تحلف بالله أننا لسنا كذلك, لأن العالم كله ليس بخير, كلمات تبدو على أفواه قائليها: وكأنها تعليق عابر على نص عابر, أو صيد في مياه آسنة, يصادر حقنا في التعامل مع واقع يؤكد لنا أننا في الحرب صمدنا, ولكن بيننا وبين النصر دول كبرى, ومؤامرات كبرى, ومصالح كبرى, وأمام المرض نحن رهائن تصرفاتنا, والموجع أننا ونحن في اليوم ما بعد الألفين من احتراقنا, “سادة الثرثرة” ومن برج عاجي (والعاج لا يحترق), كلما فقدنا شهيداً, أو تهدمت بيوتنا, أو احترقت قلوبنا, أو استلزم الأمر أن نتحد, ينثرون النصر والعافية كلاماً فوق رؤوسنا, وكأننا لابد أن نفترق, ونموت ونحترق, لننتصر!؟
ويقتلني ذلك كلما سمعته, ولكني أعود لأتذكر, أن هذا مجرد قمامة حرب, يحولها البعض إلى ملاحم كلامية يبحثون فيها عن تفسيرات أخلاقية, وروحية, وربما جمالية للوجع, بل بالأصح للبشاعة, التي نعيش فيها, نحن الذين لم نغادر الوطن, ولم نُحمل أحداً جميل بقائنا, بل عايشنا الحرب علينا, والآن الوباء, لحظة بلحظة, وشهيداً تلو الآخر, وخيبة تجر خيبة.
عايشنا وتعايشنا, ولكن لا أظن أن العقلاء منا, اعتبروا أن ما يجري لنا وبنا, بركة وهبة من الرب يجب أن تدبج بها القصائد, وأن تحتسى على شرفها الأنخاب, بل أظنهم يجدون في هذه الملاحم الشاعرية, نوعاً من العجرفة الأيديولوجية, والمزايدة الوطنية, والتزييف, لمشاعر أغلب الناس, الذين وإن كانوا يتعالون على الجروح بالحمد, وعلى الشهقات بالبسملة, إلا أنهم لا ينكرونها ولا ينظرون إلى مآسيهم, على أنها مجرد كرنفال رعب عابر, سينتهي بخلع الأقنعة, وتبادل القبلات, والاحتفال بالنصر المزعوم على الحرب والكرب!
نكره ذلك, لأن من يتغزلون, دون أن يدرون أو يدرون, يروجون للفوضى والدمار والخراب, ويجملون حفلات التعذيب والخطر التي نعيشها كل لحظة, لتبدو وكأنها ولادات تاريخية, وهي انحطاط إنساني غير مسبوق تاريخياً, وغير مبرر ولن تغطي عفونته, القشور الشعرية.
نكره ذلك, ونشعر بالغصة والغضب, أن تختلط جثاميننا بجثث الكلام الغث, كما تخنقنا الدموع ونحن نتذكر, كيف فقدنا في السنوات الأخيرة أجمل وأنقى مافينا, بحيث ضاعت المعايير, وصارت التهم والألقاب توزع جزافاً, هذا خائن, والآخر ثائر, وهذا شجاع, والآخر جبان, ووو الخ, وكلها (كليشيهات) شبيهة بالمقصلة, لتسويق الخوف من الحقيقة, ولتعويم الأخطاء, ونزع مخالب الجرأة, وترقيع الجروح النازفة, وسترها بحروف بيضاء محايدة, منشاة, خانقة, كياقات قمصان السهرات, حيث الإيهام بالفخامة والأهمية هدف, بغض النظر عن حال المشنوق والمخنوق بها, وبغض الحياء عن كل إشارات التعجب والاستفهام, وماذا ولماذا؟
“بسيطة”!؟ والواقع يقول أن “كورونا” ليس بسيطة! وهو خطر يجب أن نتوقاه لئلا يصير الموت قهراً, السبيل الوحيد للنصر, ولنتوقف عن تكديس الحروف جثثاً, ولنتقي الله في وطننا وأنفسنا والآخرين, لأن ذلك الزاد الوحيد المتاح لنا, بانتظار أن يتوقف الوباء, حتى حقاً ننتصر!.