“في بيتنا زائر غريب”.. عن عذابات الإنسان
في مجموعته القصصية القصيرة جداً في “بيتنا زائر غريب” الصادرة حديثاً في دمشق عن دار العراب نحن أمام قصص متميزة وتحمل خصوصية مبدعها، فيها الكثير من الحداثة والتحديث والتجربة الناضجة لأديب صدر له أكثر من 53 كتابا تنوعت بين الرواية والقصة القصيرة والشعر والنقد الأدبي والدراسات الأدبية. ليس هذا فحسب، بل سنجد أن أديبنا لديه تجربة حياتية غنية من حيث الدراسة والإبداع والحياة الغنية لعمق التجربة من تنوع الثقافات والظواهر الإبداعية المتنوعة وحياته التي كان قدره فيها أن يكون عرابا للإبداع الذي عشقه، سنوات عديدة من عمره أمضاها الأديب طلال الحديثي، في الكثير من البلاد العربية والعالمية. هذا ماجعل من عالمه الروائي عالماً مختلفاً وجميلاً ويستدعي الوقوف طويلاً أمامه، كذلك تميز وترك قصصاً قصيرة لاتنسى في القصة القصيرة هذا الجنس الأدبي الصعب والممتع جداً، والذي يكاد يشارف على لفظ أنفاسه الأخيرة، ليس عندنا في سورية والوطن العربي وحسب، وإنما على الصعيد العالمي. بعد تربع الرواية على عرش الإبداع الأدبي، وسحب البساط من الشعر الذي كان ديواناً للعرب. وبعد الهجوم الكاسح على الشعر لاستسهاله في ظل غياب نقدي جاد من ناحية، ولكثرة مدعي الشعر.
في “بيتنا زائر غريب” العنوان هنا هو عنوان يشي عن شيئ ما وإن كان قد تجسد في إحدى القصص القصيرة داخل دفتي العنوان، إلا أنه ذكي وموارب جميل ومخاتل ويفضي إلى تساؤل، كما لايقدم مفاتيحه لقارئه بشكل ساذج، بقدر مايجعله يبحث عن هذا الزائر الغريب الذي هو في بيته، القصة هذه هي السابعة في المجموعة وهي من الحجم الصغير استنادا للـ ( ق.ق.ج) ومن حيث تركيز التجربة، وتكثيف اللغة، وبالتالي فهي نص نثري قصير قدم لنا فيه الحديثي تجربة إنسانية فيها الكثير من الترميز والدلالات وفيها الكثير من السريالية مررنا بها عبر لحظات شخصية سردية مشغولة بدقة عالية وتحتمل عدة إسقاطات، من قبل مؤلفها الذي يتخذ هنا أنا السارد: (لفت انتباه ابنتي وهي تنظف مطبخ البيت وجود ثقب في أسفل أحد جدرانه تخرج منه دودة صغيرة بيضاء اللون تقوم الفتاة بمساعدة والدتها على محاصرة الديدان التي غزت البيت كله، في محاولة للقضاء عليها) ص 25. الديدان هنا ترميز للمستعمر والمحتل الأمريكي والإسرائيلي. وتنتهي القصة بنهاية سعيدة (في صبيحة اليوم السابع والجميع يتململون في نوم مشجون، زغردت الأم فهبّ أفراد العائلة يتراكضون صوبها ليجدوا البِشّر يطفح على وجهها وهي تخبرهم باختفاء الزائر الغريب)- ص 29
كثيراً مانجد هنا ضمير المتكلم وضمير المخاطب، وهو ضمير يشد القارئ للنص الأدبي وهو أسلوب يستخدم في فنون النص الأدبي الحديث.
تعيش القصة القصيرة جداً في بلادنا حالة ملتبسة، بين مؤيد ومعارض وبين نكران لهذا الجنس المدهش والمذهل، وبين عاشق لها ومؤيد، على الرغم من تجذرّها في بعض الشهادات الموثقة كقصص قصيرة جدا، لهمنغواي وتشيخوف
في قصصه القصيرة جداً ينسج لنا الحديثي قصصا لن ننساها أبداً، وسنقرؤها طويلا، قصصا منسلة من تجربته الحياتية ومن مختبره الإبداعي الموغل في القدم والمليء بمخزون تراثي ثقافي ومعرفي وحياتي وإبداعي. بالعودة إلى هذه القصص سنجد أن تجربة أديبنا تشبه قصصه هو ذاته ولاتشبه قصص غيره، وهي ميزة يتمتع فيها أدب الحديثي في كل إبداعاته من رواية وقصة قصيرة الخ. فهو يزاوج مابين التراث والحداثة، بين المتخيل والواقعي، لينتج نصا قصصيا قصيرا جدا يعشقه القارئ. في قصة بعنوان: “حاوٍ” يقول: (أتقن مهنة (الحواة) الذين يلعبون بعدة أشياء في الهواء، وكن حوله زاهيات، راقصات الأماني والأحلام كفراشات الحقول، ولما ذبل حقله، ونخر السّل رئتيه، لم يجد بجانبه سوى قطة تموء إشفاقاً عليه. ص 79.
نحن ومع هذه التجربة القصصية أمام حالة إبداعية تنحاز لانكسارات الإنسان المقهور والذي يعاني من قسوة الحياة والزمن عليه. في قصته “الأفعى والبعير” نحن أمام حالة إنسانية يتدخل فيها القدر لإنقاذ حالة إنسان رمته الصدفة في بئر مهجور. هذه القصة بكل جماليتها الإبداعية وحداثة لغتها، تتقاطع مع حكايا التراث من سيرة سيف بن ذي يزن والزير سالم ولربما حكايا ألف ليلة وليلة. إلا أنها قصة خاصة بطلال الحديثي: (وصاءت الحية بعد أن ضرّست رأسها أسنان البعير، فتلوى جسدها وهمد كحبل مهترىء، وقفز الراعي بما بقي له من قوة إلى حافة البئر لينطلق انطلاقة منهوك، يطارده شبح أفعى خرافية الجسم، وبعير هائج مجنون. ص 72.
أحمد عساف