رؤى..قراءة الثقافة المختلفة
محمد راتب الحلاق
الفكرة تواجه بالفكرة، أما الهجوم الشخصي على كاتب النص، واتهامه بأنه مبرمج دينياً أو قومياً أو حزبياً.. ثم، وعلى البيعة، مهاجمة الكتاب الآخرين الذين لا يوافقون هوانا، فمن الأمور التي لا تنسجم مع المنطق السليم، إذ من الطبيعي أن ينطلق كل كاتب من ثقافة يؤمن بها، ولا ضير بعد ذلك إن اتهمه الآخرون بأنه مبرمج بثقافة ما، كل ما علينا يتمثل بتفكيك خطابه لكشف الزيف الذي فيه، إن كان ثمة زيف، لا أن نتهرب من مواجهة الحجة بالحجة، فكلنا، في نهاية المطاف، مبرمجون بثقافة ما، سواء أكان ذلك عن وعي أم عن غير وعي.
والأغرب أن يصل الأمر ببعضهم إلى معارضة أفكار الآخرين لمجرد أنهم يختلفون معهم في أمور لا علاقة لها بهذه الأفكار، وينسون أن ذلك يتناقض مع النزاهة، ومن يفعل ذلك إنما يبني أفكاره على رمال أيديولوجية لا تتحمل الحقيقة الموضوعية. ومن ذلك ما يزعمه الصهاينة، ومن نحا نحوهم في التفكير، بأنهم من سلالة الجماعة الفلانية التي سكنت هذا المكان أو ذاك قبل آلاف السنين، وكأنهم يحملون في أوراقهم الثبوتية تحليلاً لجيناتهم تثبت ما يدعون، وينسون أن ما يزعمونه مجرد اختيار راق لهم، أو وجدوا فيه ما يحقق مصالحهم، فانحازوا إليه، مع أن التاريخ يتبرأ من زعمهم، لأنه لا يستند إلى أي دليل علمي يعضده.. وهذا الاختيار أوصلهم إلى الادعاء بأنهم أصحاب الأرض الفلانية، وأن الآخرين غزاة ومغتصبون، ولا يكتفون بذلك وإنما يحاولون أن يكرهوا الآخرين على أن يؤمنوا بما يؤمنون به هم، بالتدليس حيناً، وبالقوة عندما يمتلكونها ويكونون قادرين على استخدامها أحياناً، وهذا ما فعله اليهود الصهاينة وما زالوا يفعلونه، بدافع من الأوهام والترهات غير العقلانية وغير التاريخية التي يختلقونها.
وينسى هؤلاء ومن يدعمهم، أن الأوطان لأصحابها، وأن المجتمع سبيكة يدخل في تركيبها كل الإثنيات التي سكنت المكان عبر التاريخ، ومن هذه الإثنيات ما باد واندثر، ومنها ما اندمج مع المحيط وغدا جزءاً أصيلاً من مكوناته، ومنها من مازال حياً وقوياً يعطي للمجتمع لغته وثقافته وقيمه وهويته..
أنا لا أصادر اختيارات أي شخص، فهو حر فيما يختار لنفسه لكنه ليس حراً في تسفيه اختيارات الآخرين، لأن عمله في هذه الحالة يدخل في شمول الاستبداد الفكري والعنصري الذي ينافي العقل، ويناقض القيم الإنسانية النبيلة، ولأن اختياره يثير الفتن، ويباعد بين قلوب المواطنين بدل أن يوحدهم حول المشتركات، لبناء الهوية الوطنية الجامعة، ولأن تلك الادعاءات تخالف سيرورة التاريخ، حين تحاكم أحداثه الماضية بمنطق اليوم متجاهلة ما جرى وما كان يجري في سياق الزمان. وهو إذ يتهكم على أفكار الآخرين واختياراتهم ينسى ما في اختياراته هو من ترهات لا يتحملها قبان الحقيقة..
اختر ما شئت لنفسك، ودع الآخرين يختارون ما يشاؤون من الأفكار، شرط أن تكون اختيارات الجميع نوعاً من الاختلاف في الرؤى، التي تعطي لنسيج المجتمع ألواناً تزيد من جماله وحيويته، ولا تؤدي إلى تمزيقه..
اللهم ارزقنا عقلاً واعياً، وصبراً على قراءة الفكر المختلف معنا، حتى نستفيد مما فيه من حقائق، أو لنرد على مغالطاته إن وجدت، فالاختلاف لا يفسد للود قضية كما يقولون، ما بقي هذا الاختلاف في أفق الحوار الثقافي البناء، وأعرف أنه ما من قراءة بريئة، لكن علينا الحرص على أن تكون قراءتنا للثقافة المختلفة نزيهة، ومبررة معرفياً.