“عويل الأرقام”.. صرخة بوجه الظلم
تحتمل الرواية كجنس أدبي طاغ على باقي الأجناس الأدبية تعريفات كثيرة، ومن هذه التعريفات ما يميل إلى تمجيدها واعتبارها فن الأدب الشامل المؤثر، لكن أحد التعريفات تذهب إلى أنها فن الثرثرة. وهل هناك من مكان صالح للثرثرة أكثر من المقهى، فكيف وقد أضاف إليه الأديب محمد عطاف في روايته “أرقام دالة” صفة الراحة، مقهى الراحة هو جغرافية الحدث الروائي ومكان إقامة وتجول شخوصها ومتنفسهم الوحيد، نلحظ ذلك بوضوح من البداية إلى النهاية، في عملية بناء فني محكم، بحيث حصر الراوي جميع شخصياته مكانيا، وسلط الضوء عليهم من قريب ومن بعيد، وتركهم في أحايين كثيرة يقولون ما يرونه صحيحا، وما يعتمل في نفوسهم، وربما كانت صرخاتهم الأخيرة خلف (نجاة) هي بؤرة الرواية وفضاؤها الأرحب.
باختصار هذه الرواية الواقعية اجتماعية بجدارة لكنها صرخة إنسانية مدوية، وصوت عال يندد بالظلم والتفاوت الطبقي، وهي في الوقت ذاته حكاية جيل محاصر بالفقر والبطالة وتداعياتها المدمرة، من ركون إلى الحلم بغد تأخر فجره كثيرا، وذهاب يكاد يكون طبيعيا إلى تعاطي الحشيشة واللهاث وراء الجنس واللذة، تعويضا عن عجز واضح في بناء حياة زوجية سليمة، وإنجاب أطفال يمكن توفير أبسط المقومات التي يحتاجونها لامتلاك شعور طبيعي بالحياة. وربما هي عملية استكانة للوهم في ظل غياب الممكن الذي ليس ممكنا، وقد بدا في الرواية بعيدا يستصرخه من بقي على قيد الحياة من (الأرقام الدالة).
وعلى الرغم من إعجابي الكبير بما حمله هذا التحول في رسم الشخصيات والعدول عن الاسم إلى الرقم في إدانة لما فعلته البطالة والفقر والأمراض الاجتماعية في بلادنا، فإنني كنت أتمنى أن يشمل ذلك النساء فلا تذكر سارة ولا سلوى ولا نجاة بل كان من الممكن أن تحظى إحداهن بالأرقام: الأولى ثم الثانية ثم الثالثة، لكنني ممن يسلمون بأن أهل مكة أدرى بشعابها، وقد أفلح الروائي في اختياراته فجعلنا نرى الأرقام دالة فعلا على شخصيات عرف كيف يحركها وينطقها كما لو أنها معنا هنا في الحياة، وليست الرابع ولا الثامن ولا العاشر، وربما وجدنا في انتقام العاشر من الثامن ما يشفي غليلنا انتصارا للكرامة الإنسانية التي يجب تعزيز مثلها وقيمها.
رياض طبرة