الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

في مرمى الدهشة!!

سلوى عباس

على حين تعب قررت ابنة العاشرة أن تقلع عن عادة الكذب التي كانت تعتمدها لتنجو بنفسها من أي مأزق أو خطأ، وأن تعتمد الصدق سلوكاً حياتياً في أي أمر تقوم به مهما كانت عواقبه، وربما ما ساعد هذه الطفلة على أن تلتزم بقرارها، السبب ذاته الذي جعلها تكذب، وهو احتضان المحيط لها واهتمامهم بها، إضافة إلى ما تعلمته في المدرسة والبيت من قيَّم حول الكذب والصدق، وقيم أخرى عليها الالتزام بها في حياتها.

الآن وقد كبرت هذه الطفلة، كانت صدمتها بأن واجهت زمناً يُعتمد فيه الكذب الذي تخلت عنه في صغرها مبدأ سائداً لدى كثيرين، والقيم التي تعلمتها ما هي إلا نظريات لا تتطابق مع معطيات هذه الأيام التي أسبغت عليها الحرب مبرراتها وقيمها، والطفلة التي كبرت في الزمن، ظلت طفولتها تناغشها وتسبب لها الكثير من التعب، لترى نفسها هائمة في الحياة كيمامة ضلت طريق عشها، يتلبسها حزن دبق كشبكة كبيرة لُفت حول روحها، كلما حاولت الإفلات زادت الحبال حولها تشابكاً، فتبقى في مرمى الدهشة مما يجري، دون أن تستطيع التأقلم مع واقع لا يتطابق مع ما علمّتها إياه أمها ومدرسّاتها، فأمها علمتها أن لا تكذب لكن الآخرين كذبوا عليها، وعلمتها أن لا تسرق فسرق البعض سنيناً من عمرها، كذلك علمتها أن لا تخون فخانها الحظ مرات ومرات، لكن المشكلة الأهم والأصعب التي تواجهها حتى الآن أنها مع كل ذلك لازالت تصدق ما قالته لها أمها.

****

منذ أيام قادني الحديث مع أحد الأصدقاء إلى أن أتوقف عند قناعاتي التي عشت عمراً أمارسها سلوكاً مع أهلي وأصدقائي بأن الحب قيمة أسمى لا يضيرني الاعتراف به عندما ينتابني تجاه شخص ما، لكن صديقي كان له رأي آخر، إذ تطرق للموضوع من وجهة نظر المجتمع الضيقة، فبرأيه أن المجتمع يوافقنا ويهلل لنا عندما نعبّر عن كرهنا لشخص ما، لكنه قد يقيم علينا الحد إذا جاهرنا بحبنا لشخص نرغب أن يشاركنا إحساسنا الجميل والشفاف، فهذا غير متاح لنا التعبير عنه إلا في نطاق ضيق قد يفهمنا فيه مجموعة من الأشخاص المقربين منّا، لكن أن نعترف به على الملأ فهذا محرم علينا.

كلام صديقي يحمل الكثير من الواقعية خاصة وأنه كرجل خًبِر المجتمع وقيمه وتفاصيل سلوكياته أكثر مني.. أنا التي تأسرني لهفة الحب وعندما يُسرق قلبي، فإن سارقه يتسلل عبر روحي ولا أنتبه لمن يمكن أن يضبطني متلبسة بالحب بكل كياني، لكن هذا بعرف العالم مرفوض خاصة وأن العادة درجت في مجتمعاتنا على اعتبار اعتراف الأنثى بالحب من المحرمات التي لا يجوز التفكير بها، وكأنه عمل مشين، فيبقى سراً نعيشه بيننا وبين أنفسنا، هذا السر الجميل التي تحتفظ الأنثى به داخلها لكي لا يحيله البوح والجهر به إلى رذيلة.. نعم رذيلة ومن مَن؟! من رجل لم ترتكب أي ذنب بحقه إلا أنها أحبته.

والسؤال الذي يفرض نفسه: هل الحب جرم يحاسب عليه القانون والدين؟! وهل الصراحة من السلوكيات المرفوضة في مجتمعنا لا نستطيع أن نعيشها ضمن كم الكراهية التي يروج لها الكثيرون تجنباً لذنب لا يغتفر، وأين هي المشكلة هل هي في تفكير الرجل الذي يحب أن يستأثر ويكون السبّاق في كل شيء حتى الاعتراف بالحب؟! أم هي في الفهم الخاطئ لأصول التربية التي نشأنا عليها؟ وباعتقادي الرجل الذي يرى في بوح الأنثى بحبها ذنباً، هو ذاته يستطيع أن يفهم الحالة بإيجابية أكثر، ويعتبر اعترافها بمشاعرها حالة من المشاعر الصادقة والنبيلة تريد أن تخصه بها وحده.