.. هذه العزلة!
حسن حميد
الآن، وفي هذه العزلة التي حاكت قيدها الظروف الصحية، يشعر المرء بجمال التأمل والتفكّر وهو يواجه مرآة الذات وقد بدت فوق سطحها ترسيمات الماضي وما حفل به، والحاضر وما اشتمل عليه من أسئلة مرّة، والدروب المنشودة التي لم تبدُ بعد.
في هذه العزلة، تجالس النفس أمنياتها ورغائبها فتجوزها عبورا من الحدّ إلى الحدّ لترى ما فيها من الغُنم والإحباط في آن، ولترى ما فيها من الحكمة والحمق، وما فيها من الروية والطيش، وكلّ ذلك من أجل ضبط إيقاع الحياة وترتيبها، وتخليصها مما علق بها من شوائب لم تتفطن الذات إليها وهي تركض ملهوثة في جميع الأرجاء. في هذه العزلة، تتفقد النفس أضرارها وما خسرته خلال السنوات الفارطات، وهي تمضي عجلى من موعد إلى موعد، ومن مكان إلى آخر، وهي تتحدث بما يرضي جلّاسها، فتشارك في المديح إن كانت خيمته منصوبة، وتشارك في الذم إن كانت خيمته منصوبة أيضا، وهي تهمهم عجزا وخضوعا (في عبّها): لا بدّ من مسايرة الناس، فتدرك أنها لم تكن هي ذاتها في يوم من الأيام كي لايغضب فلان، أو ينفض عنها فلان.
في هذه العزلة، تتدافع الذكريات مثل غيوم مهولة دفعتها أيدٍ مهولة، فتحزن الذات وتنكمش لأن حياتها كانت منهوبة من أجل (ستر الحال)، فهي لم تشبع تمليا من وجه أب أو وجه أمّ. وأنها، وبسبب السرعة الطّاحنة، أفلتت من يدها ما هو أكثر من ثمين ونايف كي ترضي هذا أو ذاك، في هذا الحقل الحياتي أو ذاك، وأنها فقدت ممالك الجمال الكثيرة التي مرّت بها، فلم تستطع التلبث في أيّ منها لأن روح الهدأة ما كانت حاضرة، ولأن الصديق/ المرآة لم يكن موجودا، ولأن عرائش المحبة لم يبنها ذلك الربيع في تلك الآونة، وأنها مشت في دروب ما كانت لتخطر ببالها، دروب لا تعرفها، ولم تحلم بها، ولم تدرك ما فيها من التواءات، لهذا غدت الجروح ندوبا لكل منها حكاية طويلة يموج اليأس فيها كما تموج الخفافيش في الليل الرّحيب.
في هذه العزلة، تقف النفس الظمأى للمعرفة أمام الكتب التي ما زالت عناوينها تطرق أبواب القلب مناداة لتعرف ما فيها من جمال، وأسر، ومعرفة بعدما شالت بها الأماديح العالية طوال الأزمنة المتعاقبة، فلم تصل إليها، ولم تعرف ما فيها على الرغم من ثورة المعلومات الرّاهنة.
وفي هذه العزلة، تحاول الروح ترتيب القيم من الأدنى إلى الأعلى، وترصف التواريخ من المهم إلى الأهم، وتقدم الجغرافية جهة جهة ولتعرف ما في القيم من أصالة، ومافي التواريخ من حقائق، وما في الجغرافية من عبقرية.
وفي هذه العزلة، تتداحم الأسئلة فتعلو طرقاتها التي لاتخلو من ألم وعصف وعتب ولوم، لأن الذات لم تكن ابنة الحياة، ولا وريثة التواريخ، ولا لائقة بالجغرافية، ولا سادنة للقيم، ألم قديم/ جديد ينبعث لأن الذات لم تؤمن بقدسية الروح القائمة بذاتها، المستقلة عن غيرها، ولم تؤمن بقدرات العقل الذي يميّزها من غيرها مثل مقتني المجوهرات الذي يميّز الياقوت من حجارة الصّوان، وعصف موجع لأن الذات أفلتت فرصها فرصة فرصة لذلك ظلّت تتأرجح مثل شوكة في عاصفة عاتية، وعتب داخلي على تلك المداجاة للآخرين التي لا تورّث الذات سوى الزّيف واللوم والتقريع والندم على كلّ ما فات.
وفي هذه العزلة، ترى الذات نقاط ارتكازها، فتمرّ بها لتُطهر أنفاسها، وقد وعت حقّا أن الحياة أفعال نبيلة، ومواقف نبيلة، وشجاعة نبيلة، وما عدا هذا عرائش شوك من مداجاة وزيف وغرور وتنافش.. ليس إلا!