المؤتمر التأسيسي للحزب..غيّر وجه المنطقة العربية ومفاهيمها
د.معن منيف سليمان
كان المؤتمر التأسيسي لحزب البعث العربي الركيزة الأولى لأوّل حزب جماهيري عقائدي غيّر وجه المنطقة العربية ومفاهيمها فبدّل صورتها وألبسها الثوب العربي الشعبي، وذلك بما كان بين صفوفه من أهل الفكر والعمال والفلاحين، حيث امتدّ على طول الوطن العربي بشكل متواصل، ما أثار هلع المستعمرين وأتباعهم، فأخذوا يقاومون الحزب وأعضاءه بكلّ وسائلهم.
كان حزب البعث العربي استمراراً لحركة القومية العربية في نضالها ضدّ الاحتلال العثماني ومن بعده ضدّ الاستعمار الغربي، وكان تلبية لحاجات الأمّة العربية ، في تلك المرحلة التاريخية ، في تكوين حركة سياسية شعبية منظّمة تناضل في سبيل تحقيق أهدافها. فقد احتلّت الجيوش الفرنسية دمشق إثر معركة ميسلون في تموز 1920م، فبدأت مرحلة الكفاح الذي قادته قوى الاستقلال الوطني التي كانت تتمثّل بصورة رئيسة في جماهير الفلاحين في الريف وجماهير أبناء المدن من عمّال وحرفيين وكسبة وتجّار وطلاّب ومتعلّمين ومثقفين.
وأدّى وجود دستور ورئيس للجمهورية ونظام برلماني إلى الانتقال إلى الكفاح من صيغته ككفاح شعبي، بصورة انتفاضات مسلّحة مركزها الأرياف وقوامها جماهير الفلاحين إلى صيغته ككفاح سياسي مركزه المدن وقوامه جماهير أبنائها، وكان ذلك بداية الانتقال من مرحلة الثورات العفوية غير المنظّمة إلى العمل السياسي العقائدي المنظّم.
وقد تولّت قيادة هذا الكفاح السياسي في ذلك الوقت الأحزاب السياسية الأساسية التي تأسّست في سورية في مرحلة ما بين الحربين وهي أحزاب الكتلة الوطنية، وعصبة العمل القومي، والحزب الشيوعي السوري- اللبناني، والحزب القومي السوري الاجتماعي، وباستثناء عصبة العمل القومي التي تبنّت شعارات الثورة العربية الكبرى عام 1916م في الاستقلال العربي والوحدة العربية، فقد كانت الأحزاب الأخرى كلّها أحزاباً إقليمية.
ولقد أخفقت هذه الأحزاب السياسية في القيام بدور فعّال في النضال الوطني ضدّ المستعمرين، بسبب خلافاتها وتناحرها على السلطة، وبعد أن أثبتت عجزها عن الوقوف في وجه سلطات الاحتلال وتساهلها في المطالب الوطنية التي ضحّت بها على مذبح مصالحها الأنانية، وكان الأهم من ذلك كلّه رفضها فكرة القومية العربية وإحلالها تناقضات وهميّة وأيديولوجيات دخيلة بديلاً من التناقض الرئيس بين الاحتلال وبين مطلب الاستقلال الوطني الملحّ الذي كانت تنادي به القوى الوطنية. وكان للجماهير العربية دور بالغ الأثر في رفض هذه الأحزاب السياسية ورفض أيديولوجياتها، ما أفقدها عاملاً مهمّاً وحيوياً في استمرارها ونتيجة لهذا الفراغ في قيادة النضال الوطني تطلعت الجماهير الواعية إلى تنظيم جديد يلبّي آمالها ويحقق طموحاتها في التحرير والاستقلال ويقودها في عملية البناء والتطوير، وقد بدأت طلائعه تلوح في الأفق بالفعل.
في ظلّ هذه الظروف التاريخية المحلية والعربية والدولية، والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الصعبة ظهر حزب ( البعث العربي ) باسم: حركة الإحياء العربي، ليختار بعد مدّة قصيرة اسم: حركة ( البعث العربي )، ورفع شعاره الأساسي ( أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة ). وطرح الخطوط العامة لفكره السياسي، وشرع في النضال السياسي.
وفي الواقع ترجع البدايات الأولى لظهور حزب البعث إلى عام 1940م، ولكنّه لم يبرز على الساحة السياسية في سورية إلا بدءاً من عام 1943م، ذلك العام الذي يعدّ نقطة تحوّل لا في التاريخ السياسي للقطر العربي السوري وحسب، وإنما في حياة حزب البعث العربي الاشتراكي أيضاً، لأن فيه ظهرت ” حركة البعث العربي” أوّل مرّة لا كحزب سياسي فقط، وإنما كممثلة لأيديولوجية شعاراتها الأساسية هي: الوحدة والحرية والاشتراكية، هذه الشعارات التي ما تزال تحتلّ حتّى اليوم أهداف كفاح جماهير شعبنا العربي كلّه. وفي العام نفسه أعادت سلطات الاحتلال الفرنسي العمل بالدستور السوري الذي وضعته جمعية تأسيسية عام 1928م، وتمّ إجراء انتخابات نيابية لإقامة برلمان جديد، وتمّ كذلك انتخاب رئيس للجمهورية.
استطاع حزب البعث الذي التفّت حوله فئات واعية للمسألة الوطنية والقومية، وشملت المعلمين والطلاب والمحامين والأطباء والموظفين، استطاع في مرحلة التأسيس أن يشغل دوراً حاسماً ومهماً في تعبئة الجماهير في سورية لتحقيق الاستقلال ومواجهة الاحتلال الفرنسي، لاسيما فيما بين عامي 1943 – 1945م، التي انتهت بإخفاق العدوان الفرنسي في 29 أيار 1945م، وبتحقيق الجلاء العسكري عن سورية في 17 نيسان 1946م، هذا الجلاء والتحرير هما اللذان أتاحا لحزب البعث أن يتأسس في نيسان عام 1947م، فكان المؤتمر التأسيسي لحزب البعث العربي انطلاقاً للحزب الذي أسهم بشكل فعّال في قيادة نضال الشعب العربي، وأقر مفاهيم سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة، ووضع إستراتيجية جديدة تصون الأمة العربية وتحمي أبناءها، ما أثار قلق الاستعمار وأتباعه، فشرعوا في عرقلة مسيرته النضالية ومقاومة أهدافه بشتى الطرق والوسائل، ولكنهم أخفقوا أمام صمود مناضلي الحزب الذين غيّروا الصورة في المنطقة العربية وأضفوا عليها الطابع العربي الشعبي.
ففي مقهى الرشيد الصيفي الذي يقع في شارع 29 أيار حالياً في مدينة دمشق قلب العروبة النابض، انعقد المؤتمر التأسيسي الأول لحزب البعث العربي ما بين 4 – 6 نيسان عام 1947م، وأنهى أعماله مع بداية اليوم السابع من نيسان، معلناً عن مقرراته التي صاغت أهداف الحزب الأساسية في الوحدة والحرية والاشتراكية، وحدّدت الدستور والأسس التنظيمية والنظام الداخلي.
لقد وضع البعث، وبعد تشخيص دقيق للواقع العربي، حلولاً مبتكرة لمشاكل الأمة العربية باتجاه الارتقاء بالمجتمع العربي إلى حيث يجب أن يكون، بالاستناد إلى ما يمتلكه من تاريخ عريق وحضارة راقية ومزدهرة، شملت أصقاع شاسعة من العالم، ووضع المبادئ التي حددت موقف الحزب من مسألة الحرية، وأقر المؤتمر حرية الفرد كشرط أساس لحرية الأمة العربية بأكملها، مراعياً الانسجام والتوفيق بين حرية الفرد الخاصة وبين المصلحة القومية العليا.
وانطلق المؤتمر من مبدأ أنه لا يمكن بناء أيّة حرية نضالية في وطننا العربي، وبناء مجتمع عربي سليم إلا إذا اقترن هذا النظام بالتفكير الاشتراكي، أي يجب أن يقترن بنظام اقتصادي يسمح للحرية أن تكون حقيقية، والاشتراكية هي الأرض الصلبة والثابتة التي يمكن أن تُبنى عليها حرية الإنسان، وبدون ذلك لا يمكن أن تتحقق الحرية، ولهذا أقرّ المؤتمر مبدأ الاشتراكية التي تعترف من جهة بحق الفرد في التملّك، وتحدّ من جهة أخرى من تضخّم حجم الملكية.
وبهذه المعادلة يبقى هناك للفرد حافز للإنتاج والإبداع، وبالوقت نفسه تبقى الدولة حارساً أميناً لحرية الفرد وللمصلحة القومية على السواء، فلا تسمح بانقسام المجتمع العربي إلى طبقتين، طبقة الرأسماليين المستغلّين، وطبقة الكادحين المحتاجين، ما يؤدي إلى فقدان الأمة تماسكها وانسجامها، وانتفاء وحدتها وعناصر قوتها، وهنا يبرز دور الحزب كموجه وقائد لمسيرة الجماهير العربية في تحقيق أهدافها نحو الوحدة والتحرر والتقدم.
لقد عاش أعضاء المؤتمر ساعات غنية، أعطوا فيها عطاءً مثالياً، ووضعوا الأسس الصحيحة آنذاك لبعث الأمة العربية. وقد اطمأنت السلطات الوطنية حيث وجدت المؤتمر يتكلّم بالوحدة والاشتراكية في ظروف ليس في الوطن العربي قطر واحد نال استقلاله حقاً، لاسيما أن الرجعية العربية هي الحاكمة فيه، وهي القوّة الضاربة في هذا الوطن الكبير. ولهذا لم تشعر السلطات بأهمّية هذا المؤتمر إلا حين خرج البعثيون بعد انتهائه بمظاهرة أطلقوا فيها شعاراتهم الجديدة، وحين ترجمت قرارات المؤتمر إلى مواقف نضالية على مستوى القطر العربي السوري كلّه، وقد أحبطت هذه المواقف الكثير من مؤامرات الحكم وممارساته وفضحت ارتباطاته، وسجّلت للشعب انتصاراته الجديدة.
كان المؤتمر التأسيسي انطلاقة لحزب جديد شغل دوراً في صياغة الفكر القومي واستنهاض الشعور القومي والوطني في مواجهة القوى الاستعمارية، ولفت أنظار العرب إلى الأخطار المحدقة بأمتهم، فكانت ثورة آذار عام 1963م، بقيادته هي الحدث الأبرز الذي حققه في المراحل اللاحقة وتمكّن من تفجير ثورة آذار في سورية وتولى قيادة الدولة والمجتمع فحوّل بنجاح ملحوظ المبادئ والأهداف والشعارات التي كان يرفعها وينادي بها طويلاً إلى برامج وخطط عمل جسّدت تطلعات الجماهير العربية وطموحاتها، وسمحت للحزب أن يستجيب للتطورات المحلية والعربية والدولية التي أحاطت بنضاله مروراً بالحركة التصحيحية عام 1970م، التي قادها القائد المؤسس حافظ الأسد ووصولاً إلى مسيرة التطوير والتحديث التي يقودها السيد الرئيس بشار الأسد الذي استطاع أن يحافظ على المكتسبات التي حققها الحزب عبر مسيرته النضالية الطويلة، ويطوّر من فكره وأساليب عمله.