العالم ينوء بأثقاله في “وتترنح الأرض”
سلوى عباس
عرفنا الكاتبة دعد ديب عبر مقالاتها وقراءاتها النقدية المنشورة في الصحف المحلية والعربية والمواقع الالكترونية، والآن نتعرف إليها كروائية عبر روايتها الأولى “وتترنح الأرض” الصادرة عن دار التكوين عام 2019، والتي تمثل في وجه من وجوهها إحدى مدونات الحرب من خلال كشفها حالة الفساد واختلال القيم الاجتماعية والنفسية التي يعاني منها المجتمع، فكانت الحرب شماعة علقت عليها كل الارتكابات التي قام بها أشخاص الرواية، وبدءاً من الغلاف الذي يتناغم مع العنوان عبر أسطورة الثور الذي يحمل على قرنيه الأرض التي تترنّح كما أشارت الكاتبة لثقل وجع الإنسان الظالم لنفسه، والمظلوم بأقداره السوداء.
تبدو الرواية وكأنها مجموعة من القصص القصيرة، شبكت بعضها ببعض ولعل الحوار بين بطلي العمل “بارعة وممدوح” الذي افتتحت فيها الكاتبة روايتها هو الأكثر كثافة في التعبير عما أرادت أن تقوم به من سرد لتلك القصص المشبوكة المتصلة بضمير الغائب في معظم الأحيان وبضمير المتكلم وهو يتحدث عن ذاته أو عن غائبين في أحيان أخرى، فيتواتر الزمن السردي لدى القارئ وهو يتتبع تشابك اللحظات الزمانية الثلاث، الماضي والحاضر والمستقبل في المشهد الواحد، فالكاتبة تتحدث عن زمن الحرب، فيظهر العفن في النفوس حيث تضيع ملامح الحقيقة بين القاتل والضحية، إذ تسأل بارعة: بعد كل هذا الخراب، كيف ترى المشهد الشاهد؟ فيجيبها ممدوح:
“هذا ياسيدتي زمن العار، الوحوش الإنسانية من كل الأطراف تخرج أحط ما فيها، أنا باختصار، لا أرى فيه زمن الدم.. إنه زمن العار.. زمن يتبادلون فيه الأدوار حتى لا يبقى من تتعاطف معه وجدانياً لا ضحية ولا جلاد، الحقيقة غائمة والأوراق مختلطة في تعاقبية المشهد”.
في هذه الرواية ثمة ذاكرة متقدة توغل في السيرية والتخييل فتسخر الأسطورة والميراث الشعبي المحلي لتدخلنا في أجواء كأنها الحلم، بل تبرع في نقل شخصياتها بين مستويي الماضي الميثيولوجي والحاضر المرير بتناقضاته وانكساراته، فنرى الكاتبة من خلال حديث ممدوح وبارعة تشير إلى الحيادية بترميز عبر إشارتها لما ناجت بارعة نفسها فيه وهي تصف لون الرمادي لشعر ممدوح فتقول: “الرمادي الذي ضيعني وأضاع الحدود بين السواد والبياض، وخلط معنى الأشياء.. الرمادي الذي كبل تاريخي، كيف يستطيع لون أن يختزل صورة الأيام والسنين، كيف يتسنى له أن يفتح أعماقي للحياة.. هي الألوان تعلن خبثها حين تختزن المعنى ونقيضه في آن واحد، عندما تلعب بالمجاز والتأويل لتزيدني حيرة وضياعاً، أنا التي تربكني الوجوه المتعددة للأصل الواحد.”
تحفل “وتترنح الأرض” بتحولات في بنى الكتابة والدلالة والحضور والتجديد، حيث نلاحظ وعي الكاتبة للغة وأوانها والسرد ووظيفته والشخصيات وتركيبتها النفسية وعلاقتها بالآخر “المطلق”.. على أن الذاكرة كفعل محرض على الاسترجاع والاستحضار تبدو الركن الأهم الذي تتكئ عليه التشكيلات السردية، بل تبدو الحامل الاستثنائي للحدث والرافد الذي يخصبه ويغنيه ويسمو به، فالذاكرة تعنى بالإنسان وزمنيه الماضي والحاضر وبالمكان وملامحه قديمه وحديثه، كما تؤكد الكاتبة أننا نستنجد بالتذكر واستعادة الحدث بمتعة، يقصد منها إشعال الذاكرة أيضا كي تخزن في خزائنها الأشياء الحميمية والغالية والتي نخاف أن يهمشها النسيان، وضمن هذا المنطق تبني أحداثها وتراكماتها على قصص مستمدة من ذاكرة وتاريخ شخصيات الرواية التي أحكمت العناية بتحولاتها الزمنية ومتغيرها النفسي والدرامي كجزء من حياة موزعة بين الماضي والحاضر والمستقبل.
وتستفيد الكاتبة من مخزونها المعرفي لترسم لنا عبر ذاكرتها تشكيلات بصرية حركية وجمالية تغني وتعمق محكيها في صفحات الرواية، وتبدو تقنية الوصف والتوصيف كواحدة من هذه الجماليات: يخاطب ممدوح بارعة بقوله:
“كنت أظن أن الزمان توقف حيث افترقنا، لم أدر حينها عندما غادرتِ حياتي، أني فقدت الألوان التي أرى بها الكون، لم أعِ آنها أن اختلافنا حول ترتيب الحياة وأولوياتها، وتخيلاتنا المختلفة عن الماضي والمستقبل والحاضر هي الصورة الأحلى، أو كنا نحاول أن نخلق نسخاً معدنية تتشابه في كل حركاتها وسكناتها وكل ظننا أن مسلماتنا لها منزلة التقديس، لا مجال للخلل فيها، وهي مثبتة بالمطلق كنظرية وممارسة، وكل شك بالمطلق كفر، وأي كفر”.
تنطلق الكاتبة في أحداثها من إدراكها لمسؤوليتها ككاتبة ومثقفة في تفهـّم الواقع، وتمثـّل الأفكار والمشاعر والأحداث لتـُنتج منها أفكاراً وليدة، ولتؤثـّرَ في وعي القارئ وطريقة تصوّره للعالم، فانطلقت في تفاصيل روايتها نحو مناطق غائرة في الجرح الإنساني وفي تاريخ الذات السورية المثقلة بأوجاعها الإنسانية والتاريخية، وقد استطاعت أديبتنا أن تصوغ عبر سردياتها بعض المفارقات الاجتماعية بلغة رشيقة التقطت معها التفاصيل، فرسمت العلاقات الاجتماعية وما يظهر منها في لغة التواصل تتمّم رحلة السرد بشكليها الظاهري والباطني، حيث السرد المبطّن يخدم الغايات الدفينة التي تبوح بها الرواية تعبيراً عن روحية القص، وعشق الكلمة لماض فطري، وتبقى شموع القلب في امتصاص وهج المعنى الغامض كي يبقى القلب بلا مفاتيح في “وتترنح الأرض”، فتحافظ الكاتبة على قوة الحياة لدى شخصياتها وتستحضر عبر شخصية ممدوح حكاية ليليت البدايات التي قادت دهشة الكشف للعالم الأرضي، عالم الألق المتوقد بالجنون والوله لتفاحة ذات إشعاع يتنامى بأطياف غير منتهية، هي اللعنة واللوعة ولوثة العقل الأولى، وتضيف:
“هي ليليت البدايات الآتية من رحم الأساطير، لتكتب سفراً جديداً لأنثى تستعيد عرشها المسلوب.. الأنثى العابرة للحيوات المتعاقبة ضوعاً إثر ضوع، تسلم سلالتها الشيفرة السرية لنبض الريح، فتراها تسكن تارة وتهب تارة أخرى مجددة الوهج القديم لانفلات الفطرة الأولى لصنو ساكن البسيطة الأول..
ثمة أسئلة حاولنا في هذه المقاربة أن نجيب عنها وأولاها دور الذاكرة في صوغ مفردات هذه الرواية التي تستحق القراءة والتمحيص والتي هي نتاج روح مبدعة حاولت سبر الكينونة الإنسانية في سلوكها الحياتي عبر لوحات تراجيدية لشخصيات نراها ونحلم بها كما حاولت رصد التحول الطارئ بين المكان والولادة والمكان الحياة، إنها جزء من ذاكرة أمة حاولت أن تكونها وتمتد بها.