عمر مبني للمجهول!؟
د. نهلة عيسى
الساعة تتجاوز التاسعة ليلاً, وأنا في طريقي إلى بيتي بعد لقاء إذاعي؛ وبدون خجل ولا تردد ركضت نحو صوتين آدميين يتبادلان الحديث في ظل نور شاحب لمصباح يدوي يتوسطهما, ويبدو عن بعد وكأنه عين عجوز كليلة, ولكنها متلصصة، فضولية.. ركضت نحوهما صارخة بعدما سرت رعدة خوف في جسدي أن كورونا ربما ثالثهما, وأدركت فجأة أنني أمارس دور “يونس”, وأنني أعالج “بدون هدوء” الموضوع, فخفت أن يتلقفني أحدهما بـ “البوكس” جراء حشريتي, فبدأت أتعثر على الإسفلت المرقع بخطى مترنحة ذكرتني أني أهيم على وجهي منذ الصباح أوزع المعقمات على الجبهات, قاصدة محاصرة عام بائس, صرخاته حتى الآن “الله يجيرنا من الأعظم” مخيفة الحكايا, وأيامه قصص رعب تفوح منها روائح الدواء, وظلاله شبحية كوحوش الأساطير, هذيانها الأخرس يروي حكايات عجيبة غريبة! كنت أريد معالجة الواقع, فودعت الواقع وغرقت كساذجة بلهاء في التحسب لصد “البوكس”؛ وفي رحلة استعراض “مهاراتي القتالية”, وهو استعراض أغرقني في مستنقع بشاعات الحاضر, وجعلني أشعر وكأن المدينة غاضبة ومضربة عن الطعام, النوم, البشر, وعن الزمان نفسه, لأنها ترفض أن تنسب إليه, وتأبى أن تدون كتب التاريخ يوماً أن جثث كل القباحات تمددت على أرضها, وأنها بدل أن تتجمل للسياح, ناءت بالجياع وبالراحلين كرهاً من منازلهم وعقولهم إلى العدم؛ والقلب نار فلا عين ترى تاريخ أو جمال, فقط بسطات وبسطات, وطوابير, وتحد أخرق لقوانين السلامة, وحيث كل يكافح وحيداً ليبقى على قيد الرغيف أو قيد الحياة! كنت أريد أن أعالج الموضوع, وسط البيوت المتعانقة في تعب وحنان, وحيث الستائر تخفي الفقر والهموم, وحيث الناس يتكلفون الفرح والتعب يسطو على كل الملامح, ويأكلون نراجيلهم بطريقة أشبه بالانتحار الجماعي, وعيونهم أقرب للنوافذ الموصدة على الذكريات, حيث الأمس بات حلماً, لأن الغد صار مبنياً للمجهول, ولذلك فكل الأشياء سواء, كل الأيام خصوم!؟
كنت أريد أن أعالج الموضوع, فرماني الوجع في لجة العتمة, وأمام الدكاكين التي تبدو كشيخ بائس ينتظر على الطريق عودة ابن ضال, وهياكل معدنية التصق بعضها بالبعض الآخر لمراجيح عارية وصدئة تشعر بالوحشة, وتصفر الرياح عبرها كصوت التنين, مع إحساس غامض بخوف عميق, حينما تهب علي رائحة زهر الليمون الرائعة الجمال, فلا أبتهج مثل زمان, ولكن أكتئب كما لو كانت عطراً ينذر بالفراق.. آه ما أبشع أن ترى مدينتك تعانق الفراغ, تعانق الصدى, خوفاً من الردى!؟ كنت أريد أن أعالج الموضوع, وأن أسرق من “يونس” دوره, فألقاني الموضوع في وجه مواضيع على درج الزمان الرديء, وخيرني في غفلة مني بين أيام عشتها وعرفتها وعجنتني وعجنتها, وبين أيام قادمة مبنية للمجهول, فاخترت الجري خلف الأصوات التي أحبها, أصوات من صابروا وصبروا, ولم يشاركوا في الرهان على الوطن, رغم أن كل ما يرشح من نبراتها المبهمة, يشي بزمن وعمر مرير, ولكنه أيضاً يشي بأن نبتة الرغبة بالفرح والحياة لا تموت, وأن بريق الأمل لم تخمد جذوته, وأن بالونات الحلم المتشظية فوق رؤوس الجميع, ماتزال رغم التشظي مطلقة السراح, ومازال لكل منها تذكرة هوية وميلاد, ولذلك من الممكن أن تدخل المستشفى, ولكن من المستحيل أن تموت, لأننا في الوطن مصرون على الحياة حتى في الأيام المبنية للمجهول.