في ذكرى تـأسيس “الحزب”.. إنجازات وتحديات
أحمد حسن
منذ نحو ثلاثة وسبعون عاماً اجتمع ثلة من الرجال المهمومين بمستقبل أمتهم العربية في مقهى الرشيد الصيفي بدمشق ليضعوا أسس “حزب البعث العربي” الذي باندماجه لاحقاً مع الحزب “العربي الاشتراكي” أصبح يعرف بـ “حزب البعث العربي الاشتراكي”، ومذ ذاك وهذا الحزب فاعل رئيسي في كل قضايا الأمة من المحيط إلى الخليج، لم يغب عن قضاياها ولم تغب عن أجندته ونضالاته وهمومه واهتمامه الأول والوحيد.
مبكراً، وفي بيئة سياسية واجتماعية فائرة أعقبت خروج المحتل الفرنسي من البلاد، أعلن الحزب، وبوضوح، انحيازاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ومبكراً أصبح محط أنظار، وأفعال، الجميع أصدقاء وأعداء، سواء حين كان خارج السلطة أم حين دخلها بعد ثورة آذار، ومذ ذاك وهو يتعرّض للظلم والغبن من الجانبين، فالعدو، كما هو معتاد ومألوف، حاول، ما زال، وأد هذه التجربة وملاحقتها في كل مراحل تطوّرها، فيما كان الصديق، وكما هو مألوف أيضاً، متطلّب لا يقبل من “الحزب” سوى الانتصارات الدائمة، غاضاً النظر عن الواقع الذاتي والموضوعي العربي والعالمي الذي يحيط به وبالأمة جمعاء.
وبين هذين الطرفين كانت مسيرة الحزب مستمرة ومثمرة رغم بعض العثرات الناجمة عن عوائق موضوعية وذاتية، وهي عثرات طبيعية تواجه كل أحزاب العالم، فكيف بحزب مارس السلطة لفترة تنوف على سبعة وخمسين عاماً مرّ فيها بلده، وأمته، بحروب داخلية وخارجية، بعضها عسكري، وبعضها اقتصادي، وبعضها سياسي، وكلها تترافق مع هجوم فكري/إعلامي هائل بدأت مرحلته الأولى بالتقليل من انجازات الحزب، ومن يشاركه نظرته من بقية الأحزاب والقوى السياسية العربي – كادت آلة العدو الإعلامية أن تحمّلهم وزر كل نكسات وتراجعات وهزائم الأمة منذ معركة “أُحد”-، لتتطوّر، في الثانية، إلى الاستخفاف بكل ما يمثّله الحزب، بشعاراته وأهدافه وممارساته، وصولاً، في الثالثة، إلى كيّ وعي الجماهير، وخاصة فئة الشباب منها، عبر استلابهم أولاً، وتهميشهم وإبعادهم، ثانياً، عن قضايا الأمة الحقيقية وإلهائهم بقضايا متعددة تبدأ من “السماء” والخلاف عليها، ونتيجته المحتومة تقديمهم للموت الجماعي في مجاهل أفغانستان وكهوفها البعيدة أو إشغالهم بالفتن المذهبية الدامية مع شركائهم في الوطن، ولا تنتهي بإشغالهم بحفلات الجنون العصابي الجماعي الدائرة على وسائل التواصل الاجتماعي المفتوحة على كل الاتجاهات والقضايا، الثانوية تحديداً، بأيدي جهلة، أو مدسوسين، والنتيجة واحدة على كل حال.
بهذا المعنى، ولأنه لا يمكن الركون لأمجاد الماضي على أهميتها، فهذا يدفع للركود والموت لاحقاً، يجد الحزب نفسه اليوم في ظل “بيئة” تختلف كثيراً عن البيئة التي عمل ضمنها المؤسسون الأوائل، “بيئة” تحفل بحجم هائل من التحديات المترابطة وغير المسبوقة الناجمة عن عصر يعيش فترة انتقالية بين نظامين عالميين، ويتميّز بانفجار المعلومات وسرعة انتشارها، حيث المعلومة، صادقة محقة أو كاذبة مضلّلة، لا تنتظر اجتماعاً حزبياً لاطلاع “الرفاق” عليها، والاشاعة تنتقل بسرعات غير مسبوقة عبر “بوست” فايسبوكي أو “تغريدة” صغيرة، لتقلب المجتمع رأساً على عقب، قبل أن يعرف “الكهنة” الكبار في الأحزاب التقليدية ما الذي حدث، أو تقرير سبل معالجتها، ومواجهتها إذا اقتضى الأمر.
والحال، فإن ذلك كله داع ضروري إلى التحديث والابتكار في سبل المواجهة، وبداية ذلك تفعيل “ثقافة النقد”، ولو القاسية أحياناً، في مسار الحزب، كما في واقعه الحالي، خاصة وأنها، أي ثقافة النقد، “إحدى أساسيات عملنا الحزبي وغير الحزبي”، كما أكد الرفيق الأمين العام للحزب في لقائه الأخير مع صحيفة “البعث”، وأهميتها تتزايد في المفاصل الحرجة التي تمر بها جميع التيارات والمنظمات السياسية، مهما كانت تجربتها ناجحة أو جيدة، فكيف في حالة حزب كحزبنا يقود بلداً يعاني منذ نحو عشر سنوات من حرب تقودها قوى دولية عظمى وإقليمية تابعة، تزج فيها بجيوش رسمية وجيوش غير رسمية، من مرتزقة إرهابيين جمعتهم من كل أنحاء الأرض، ويتزاوج فيها الخنق الاقتصادي مع الحرب العسكرية والضغط السياسي والتضليل الإعلامي والتشويش الفكري وكل أداة يمكن استخدامها بغض النظر عن قذارتها أو مخالفتها للقوانين الدولية المرعية.
وبهذا الإطار، وفي ظل هذه الأزمة العسكرية، والصحية “الكورونية”، وتبعاتهما المختلفة، يمكن لنا اليوم، ونحن نحيي ذكرى الولادة، أن نعيد التأكيد على أن المواجهة الناجعة تحتاج لحشد جهود الجميع، و”البعثيون” أولهم: “العمال والفلاحون وصغار الكسبة.. و.. و”، وهؤلاء وإن كان بعضهم يهتم بإعادة تأصيل مشروع الحزب الوطني الديمقراطي العلماني على أسس سليمة تنظيمية وفكرية تراعي تطوّرات العصر، تبدأ من التعليم ونظام المدارس، ولا تنتهي عند العقد الاجتماعي/ الدستور، إلا أنهم جميعاً يرون، وخاصة في هذه المرحلة، أن همهم الأساس هو “العدالة الاقتصادية والاجتماعية” التي أطاحت بها ظروف الحرب الحالية، كما أطاحت بها بعض السياسات الاقتصادية الممارسة. وبالتالي يجب أن تكون معالجة هذه القضية أولوية أولى لدى الحزب في المرحلة القادمة، لأنها، كما أثبتت التجربة، أس النجاح والاستقرار، وتلك مسألة نبّهت الأدبيات البعثية مبكراً من خطورتها “لأن أساليب الاقتصاد الحر الرأسمالي تزيد في انتشار الفوضى الاقتصادية، وتخلق الظروف الموضوعية لتبعية أكيدة للاستعمار الجديد، وتجعل الدولة مؤسسة لنقل الثروات إلى الأغنياء”..
وبالطبع يمكن الحديث عن ضرورة إعادة النظر في بعض الإجراءات التنظيمية وبعض المقولات الفكرية، منها مثلاً تطوير واستكمال “بعض المنطلقات النظرية” – كي لا تبقى “بعض” بعد كل هذه المدة – ومزاوجتها مع العصر وتحدياته، وبذلك، فقط، يكون احتفالنا بذكرى التأسيس، كما نقدنا ومحاسبتنا، لأجل الغد، ولا شيء غيره.