رؤى.. جدوى الكتابة الانتقادية
محمد راتب الحلاق
تمر أوقات يعزف فيها الكاتب عزوفاً تاماً عن الكتابة، ولاسيما الكاتب الناقد لمواطن الخلل في المجالات كافة، بما في ذلك المجال الثقافي، بعد أن يسأل نفسه: ماذا أكتب؟ ولماذا أكتب؟ وما جدوى الكتابة؟!.
والسؤال الأخير سؤال حارق، يصيب الكتاب بالإحباط الشديد، في زمن لم يعد فيه من يخشى الانتقاد، مادام الذي بينه وبين أولياء نعمته عامراً.
ورغم الدعوة إلى الشفافية والنزاهة والمحاسبة والمساءلة، والتشجيع على عدم السكوت عن الخطأ أو التستر عليه، والتي تنادي بتطبيق مبدأ (من أين لك هذا) على كل من هبطت عليه النعمة فجأة وبقدرة قادر. ورغم ما يعانيه المواطن من جشع تجار الأزمات، ومن بيروقراطية عمل بعض المؤسسات الثقافية وغير الثقافية، مازال الفساد يستشري، ومازال محدثو النعمة يتزايدون بصورة سرطانية، بل وصل الأمر إلى حدود لم نكن نتوقعها، وإلى أشخاص لم نكن نظن فيهم إلا خيراً، وما وضعت فيهم الثقة إلا بسبب ذلك.
ومما يزيد في الإحباط أن نجد بعض الفاسدين (يمطون ألسنتهم) استهزاءً بالكتابة وبمن يكتبون، ويستمرون في ممارسة هواية الهبش واللطش والنتش…. وما على وزن هذه الكلمات وفي معناها. ولعل ما ينشر في الصحف، بين الآونة والأخرى، ما يزيد فهمنا للمثل الذي يقول في جزء منه:
وإذا سرقت فاسرق وزيراً (أي مسؤولاً كبيراً)، لأن السرقة ستكون (محرزة)، فيده طايلة.. وفرصته كبيرة إن أراد أن يرتع مع الراتعين في الأموال العامة والخاصة.
وقد أرجع بعض الدارسين فساد الفاسدين والمفسدين إلى سوء التربية، وإلى القيم الثقافية والاجتماعية التي تلقاها هؤلاء في صغرهم، ووصفوا تلك التربية بأنها لم تكن تربية صلبة، فالفرد يتلقى القيم ومبادئ الأخلاق، وما هو حلال وما هو حرام، وما يجوز وما لا يجوز، من أسرته أولاً، ثم من المدرسة، عن طريق المعايشة، والقدوة الحسنة، وسياسة الثواب والعقاب، لذلك نجد العامة حين يشتمون الفاسد (يلعنون الذين ربوه هكذا تربية).
وإلى جانب سوء التربية، ثمة أمور تساعد في الانحراف، وتغري بالفساد، وأهمها غياب المساءلة (فالمال الداشر يعلم الناس الحرام)، وكم من فاسد، بل من شطار الفاسدين والمفسدين، كان قد تلقى تربية صالحة من والديه وأسرته ومدرسته، ولكنه حين وجد نفسه في منجاة من المحاسبة، بحكم ارتباطاته وتربيطاته، أقدم على غير ما تربى عليه، وراح يهبش ويلطش حتى لا يتهم بالغباء، وبعدم اغتنام رياحه التي هبت، وبعضها رياح عاصفة، قادرة على التلاعب بأكثر العقول رزانة، وبأشد القيم رسوخاً. بل إن بعض المثقفين والدارسين قد برروا الرشوات والعمولات على أساس أنها نقطة الزيت القادرة على تليين المفاصل القانونية المتيبسة.
وعندما يقع الفاسدون والمفسدون، ولابد أن يقعوا في يوم من الأيام، سوف يندمون على ما فرطوا بحق أنفسهم وأسرهم وأولادهم ووطنهم (ولآت ساعة مندم)، لأن للأموال والحقوق من يحميها ويصونها، ولأن الثقة الممنوحة للأشخاص مبنية على حسن الظن، وعلى ما عرف عنهم من استقامة، ولم تمنح لهم على بياض، وما على رأس أحد، أياً كان، خيمة تحميه من القوانين.
والناس تعرف الفاسدين من سياراتهم الفارهة، ومزارعهم العامرة، وأرصدتهم المالية الهائلة، وقصورهم المنيفة.. وهم الذين كانوا حتى الأمس القريب يشكون القلة، (وحارتنا ضيقة ونعرف بعضنا)، والسماء لا تمطر ذهباً ولا فضة.