ماء القلق!!
سلوى عباس
وقفت أمام مرآتها تستطلع آثار الزمن على وجهها، تقرأ الخطوط والتجاعيد المرسومة عليه بدقة، و تحكي حكاية عمرها الحقيقية، نصحها كثيرون أن تسعى لمحوها، وتستعيد زمناً ضاع منها.
تمعّنت في المرآة ملياً تقرأ بعمق خبايا روحها، وتبثّها تداعياتها المربكة، كيف تستعيد الزمن الذي دفعت ثمنه من عمرها وحياتها، وكيف لها أن تنجّر وراء هذه النصائح وهي التي سعت دائماً أن تكون هي “هي” بعيداً عن أي تجميل أو تزويق، ويكون صدقها مع ذاتها ومع الآخرين مبدأها الذي تعلّمته مع أبجديتها الأولى، وجعلته عنواناً لرسالتها في الحياة.
كيف لها أن تغيّر ملامح عمر، وفي كل خلية من جسدها ندبة تركتها الحياة، لتكون زوادتها في سنين عمرها..؟
هل للمرآة أن تحدثّنا عن حالنا، عن أيامنا، هل يمكن أن تكذب علينا، هل يمكن أن نكون صادقين مع أنفسنا أمامها، فإذا كنا نتحايل على المرايا العاكسة لصورتنا، كيف لنا أن نهرب من مرايا أرواحنا التي من خلالها نتعرّف إلى حالتنا، حين نقف مع أنفسنا، نفتّش عن ذواتنا أين أصبنا وأين أخطأنا..
تلك المرايا هي مرايا صدقنا مع محيطنا الذي كلما ابتعدنا عنه ظلّ يلاحقنا.. لذلك علينا أن نواجه أنفسنا بأخطائنا لا أن نكسر المرآة لنهرب مما نحن فيه، نحن دائماً نرى عيوب الناس وننسى عيوبنا، فإن أظهرت لنا التجارب حقيقتنا نتذمر!؟ ونرفض الانتقادات، هل فكّرنا في تغيير ذواتنا قبل أن نفكر في تغيير ملامحنا لنتمكن من تغيير العالم..؟ فصوتنا الداخلي يبدد كل إنذارات تقدمنا في العمر، والسرّ يكمن في أننا – وربما هي غريزة نستسلم لها – نرفض كلّ ما يضعنا خارج دائرة الضوء، فنميل أكثر لمجاراة الموضة، ناسبتنا أم لم تناسبنا، ويبدو أننا نحب أن يرانا الآخرون كما نرى أنفسنا وكما تقوله لنا مرآتنا، لكن هل توافق مرايا أرواحنا أن يعود بها الزمن إلى حيث لاشيء يشبهها، وتتناسى كل لحظة حب أو ألم خفقت في شرايينها، وأطلقت في مسامها احتفالات الحياة.
****
حين أشتاق لنفسي.. أجدك جالساً على الكرسي المقابل بأشيائك الصباحية المبعثرة حولك، ترتشف قهوتك مشغولاً بكتاب تقلّب صفحاته، فتنتابني رغبة أن أسرقه من يدك وأناغش روحك قليلاً لعل السماوات تصبح أكثر رحابة، ولعلني أرتدي الغيوم وشاحاً من أطياف الحلم.. كل شيء معك يوصلني إلى حيث لا يصل أحد.. أتحرر من كل ما يثقل روحي، وأمتلئ بهواء نظيف.. تنهال كلماتك على أزهاري كالمطر.. تقطفني وتجمعني كزهر البنفسج في أضمومة حب.. ترسم على شبابيك روحي ألواناً من ضوء… وبلحظة تجيد محوها ومحوي.. ومحو كل الأزمنة والأمكنة.. فأنسى الليالي الطويلة التي أقضيها وحيدة.. وبلحظة أخرى تشع فوق أمواج حياتي فتضيء الشموس ويتفتح البنفسج.. وأتبخر أنا، وأتندى لأمطر فوق بحرك وشطآنك..
حين أشتاق لأكون أنا.. أبحث عنك… أنظر إليك، أملأ عيني منك… أجدني فيك.. فأتدفق كالأنهار وأضيء بك عتمة الأكوان.. حين أشتاق لأكون أنا، أناديك لأستقبل صباحي معك.. ألتصق بك.. أتغلغل فيك لأقول لك كم يسعدني أن أكون لك.. وإذا ما ارتجف صوتك مرة تغزوني نبرته وتنشر في ابتسامتي حزناً ويتبدى العالم رمادياً واجماً وتفقد الأشجار خضرتها والهواء لا يعود هواء.. تستوي الألوان كلها لدي وتطبق السماء عن بهجتها، فلا يلوح في المدى أي طائر ولا تحف في مسمعي أوراق الياسمين.. لا أدري أي حزن يتلبسني متسارعاً تاركاً لنبات الأسى أن ينمو على وجداني متسعاً كل أفراحي بك وحبوري.. ويتدفق ماء القلق في روحي، فأنا لا أقوى على سماع حزنك ولا أقوى على أن لا أضم إلى صدري شهيقك المتعب وكل أحزانك.