“محكيات كورونا”.. ونوافذ البوح الطليق
لن يكون “الزمن الكوروني” إلا محض مجاز أملى واقعاً بعينه على البشرية جمعاء دون استثناء، ومع هذا التوصيف ربما نذهب إلى اشتقاقات لا يمليها تواتر اللغة والملفوظ فحسب، بل يمليها زمن آخر إضافي هو “زمن العزلة”، ومنها يمكن الذهاب إلى تصاديات هذه العزلة في النفوس والإرادات وصولاً إلى نصوص حذرة شديدة الارتياب، نادرة الطمأنينة، مشبعة بالتأملات والتساؤلات والهواجس بصوتها المسموع، بوصفها ضميراً كتابياً يهجس بالبقاء وباجتراح الخيال ليضيف على الواقع نكهة ما، طازجة بما يكفي مسافة عطر تبثه وردة الروح.
هل هي الحكايات التي ستصبح ذاكرةً للآتي أم ستصبح منسية حينما نصبح على زمن بغير كورونا ومشتقاته، ذلك أن ثيمة الموت والفقد والاحتضار مازالت تدفع الحالمين إلى ابتكار نصوص الحالة، المفعمة ليس بالترف وحده بل بمستويات من الشغف الذي يغلف ارتدادات خوف خفي، لكن العزلة كما ذهب شيخ كار الرواية (ماركيز) يمكن لها أن تنتج نصوصها المسلحة بالأمل والمكتنزة بشرطها الفلسفي/ الوجودي، وفي حقيقته هو شرط جمالي مكتفٍ ولسبب بسيط جداً هو أن اكتشاف الجمال أصبح موهبة الحالمين في الأرض وإعادة هذا الاكتشاف من شأنها أن تطيل أمد الحلم حتى يصبح حقيقة ناجزة أي: علينا البحث ملياً كما الإصغاء أكثر لتلك الأصوات التي لم تنجُ حتى الآن من تأريخ يومياتها، لكنها ستنجو -ربما- من ذاكرة مثخنة بسياق الأوبئة التاريخي المنفصل والمتصل بآن معاً في الذاكرة البشرية، حتى يتضح النص بوصفه علامات تتوسل أن تشكل فارقاً في وعي اللحظة والتأسيس عليها لزمن قادم، زمن تصبح فيه الأفكار قابلة للحياة، وحاملة لحيوات كتّابها إلى الضفاف الأخرى، ليست فقط ضفاف الخلاص المشبع الأناشيد، بل ضفاف الرؤيا التي لا تأخذ من دروب جوع جورجي أمادو إلا ما يعينها على أن تلقّم الأرواح خبز إيمانها، بعبور استحقاق نادر: أي كيف تقبض على الحياة وسط نقائضها وتشابك أحداثها، بل حبكتها القوية بوصفها رواية العالم الكبرى والمنشودة والمتسقة بخطاب هوياتها غير المتصادمة.. هوية هذا الكون بماهية إنسانية طليقة.
ولعل في جواب عالم السيمياء والروائي والمؤرخ والفيلسوف والأستاذ الجامعي والصحافي وعازف الموسيقى أمبرتو ايكو على سؤال لافت للنظر (أليست هناك مفارقة غريبة بعض الشيء ما بين أزمة الحضارة وعتبة الألفية الجديدة؟) أي قوله: (إن اقتراب نهاية هذه الألفية لهي مناسبة كي نعيد التفكير بتاريخنا… إن شعر شخص ما بشيخوخته نجده يكتب وصيته كما يقوم بجردة لحياته… إن انتهاء الألفية حقبة مهمة بكونها مناسبة كي نقوم بجردة لكن وبطريقة مشابهة منذ قرن من الزمن، كان السفر إلى أستراليا حجة ليجعل الشخص أوراقه نظامية… هناك في إشارة 2000، مناسبة كي نقوم بدورة حول أنفسنا لنستعيد الماضي بشكل طوعي، ما يسمح لنا بمعرفة متى واقعنا مرضى، وما هي الوسائل لنتخطى ذلك.) إجابة بما يكفي لأن تفتح في أفق محكيات الزمن الكوروني قيم الاستشراف والتنبؤ، والأدل هو التخطي والتجاوز، ليصبح الإبداع وعياً، وتصبح الكلمة مصل لغة طازجة تُشفي الأرواح وتعلل بقاءها زمناً بعيداً.
أحمد علي هلال