في ذكرى الرحيل
وكأنهم متفقون أن يحزموا أمتعتهم واحداً إثر آخر في هذه الأيام النيسانية، فمنذ أيام مرت ذكرى رحيل الفنان خالد تاجا، وأمس باغت الموت الفنان عبد الرحمن أبو القاسم الذي تزامن رحيله مع ذكرى رحيل فنان متميز وقدير هو الفنان عبد الرحمن آل رشي الذي غادرنا أيضاً في صبح نيساني منذ سنوات ست والحرب على سورية في أشدها، هذا الفنان الذي كان صوته قبل أيام من رحيله يصدح في سماء دمشق بوعد إعمار سورية التي خربها المتآمرون.. لكن القدر لم يمهله للوفاء بوعده.. مضى إلى رفاق سبقوه تاركاً لنا تاريخاً فنياً سيبقى منارة لأجيال قادمة، فما بين أغنيته “أنا سوري آه يانيالي” ومشاركته الأخيرة في أوبريت “راجعين نعمرها” حكاية وطن نسج فناننا الراحل تفاصيلها بخيوط الحب والانتماء، فكانت راية خفاقة في سماء المجد والعزة. كان الفنان آل رشي مبدع من نوع خاص جداً قادر على الاستمرار في التألق والنجومية في كل الأوقات، لم يستطع الزمن أن يهزمه ويسلب منه مقدرته الفائقة على أن يصبح شيخ الفن والفنانين لما يزيد عن 50 عاماً، ويرجع هذا إلى تركيبته الشخصية المبدعة ومقدرته على التنوع في أداء شخصياته، معتمداً على تكوين الشخصية التي يقدمها والتركيز على قوتها ومقدرته في السيطرة عليها، تربع على عرش الدراما السورية منذ أواخر الأربعينيات واستمر بطلها المتميز في الخمسينيات، وأستاذها في الستينيات لكثرة أعماله وتنوعها وخصب أدائه وتجدد عطائه وثراء شخصياته، وحكيمها في التسعينيات ليواصل عمله الذي جنّد نفسه له في معترك التمثيل بالقدر نفسه من الإبداع والتلقائية والجدية.
يعدّ الراحل آل رشي من أهم عمالقة الفن السوري والعربي، فهو ينتمي إلى جيل الفنانين المخضرمين والرواد الذين واكبوا انطلاقة الدراما التلفزيونية منذ بداياتها في الستينيات حتى لحظة رحيله وبدايته في الفن تشبه بدايات الكثير من مجايليه، حيث كان الفن محرماً في تلك الفترة، لكنه تمكن عبر ارتياده للنادي الشرقي للفن من الدخول إلى الإذاعة والتلفزيون والسينما، وكان ينظر للحياة بكل تفاصيلها على أنها تجارب يعيشها الإنسان عبر اختلاطه بالناس واكتشاف الحياة، حيث تتطلب التجارب منا الاستيعاب والفهم والمقارنة واتخاذ الموقف الصحيح الذي يحفظ إنسانيتنا، وقد تشابهت تجاربه مع تجارب الناس بتناقضاتها وتعرجاتها ومحطاتها، فكل محطة مر بها تركت آثارها عنده، ولكل تجربة قيمتها وفائدتها ومضارها، فهو كما عرفه الجميع كان يتمتع بحالة من التوازن النفسي كان يردها –رحمه الله- إلى الأرضية السليمة التي نشأ فيها، وحالة الحب والاحتواء والأمان التي عاشها في كنف أسرته، إضافة إلى المعرفة التي سعى إليها من أجل التمثيل والتي أنقذته من أمور كثيرة كانت تهدّد حياته في سنوات عمره الأولى، ومن حسن حظه أنه دخل مجال الفن الذي أتاح له الاطلاع على كل جديد، وأن يعيش الحياة بكل أطيافها وتلوناتها.
لم يكن آل رشي يحب الانتماء لأي حزب، لأن انتماءه لسورية الأم، كان خياره الذي اختصر كل الفئات والأحزاب، وما كان يميز شخصيته الإنسانية والفنية هذا الارتباط الوثيق بين ثقافته العالية وتأكيده على مضمون الأعمال التي يشارك فيها، فهو لم يقبل بأي دور سطحي أو لا يحمل قيمة تضيف إلى تجربته، إضافة إلى أسلوب أدائه الذي تميز فيه عن الآخرين، كما كان ينحاز للغة العربية الفصحى، ويرى الدراما رافعة ثقافية مسؤوليتها رفع مستوى وعي المشاهد، باستخدام المفردات المشتركة بين العامية والفصحى وتكريسها، لأنه يرى في اللغة العربية بكل ما تتمثله من جمالية وخصوصية في حياة المجتمع وثقافته الحاضنة الأهم لتراثه وهويته.
رحل هذا المبدع الكبير كما رحل مبدعون كثيرون قبله، رحلوا وتركونا لزمن مرهون بدقات الثواني التي تقرع أجراسها في آذاننا، فنبقى مرصودين لعذابات الوقت الذي ينسرب سريعاً، ويترك في أيدينا حرارة الرمل.. لروحك الرحمة شيخ الدراما السورية فأنت باق في وجدان أهلك ومحبينك رغم الغياب.
جُمان بركات