“السينما في بيتك”.. الفيلم السوري من النخبوية إلى الجماهيرية
لم نكن بحاجة إلى هذا الوقت كلّه، واستجابة للإجراءات الاحترازية للوقاية من فيروس كورونا، حتى يتعرّف السوريون أكثر إلى جديدهم السينمائي، بل كان المأمول من المؤسسة العامة للسينما أن تُقْدم على هذه الخطوة “المتأخرة” منذ اندلاع الحرب على سورية، عبر إطلاق منصة خاصة على الانترنت تعرضُ فيها أهم أفلامها الروائية الطويلة أو القصيرة، وصولاً إلى أفلام منح الشباب التي تتبناها سنوياً، ولاسيما أننا عانينا من ظروف قاهرة حاصرتنا في السنوات العشر الماضية، وكانت في زعمنا أشد قسوة من هذه الجائحة العابرة!.
غير أننا سننظر بكثير من التقدير والاحترام والانتباه والمحبة إلى هذه الخطوة التي تسعى المؤسسة من خلالها مشكورة إلى نشر الثقافة السينمائية وتعزيزها، والحرص على التواصل الدائم مع محبي السينما، خاصة وأنها تعرضُ للإنتاجات السينمائية الجديدة التي تناولت قصص الحرب وحكاياتها من زوايا وجوانب ورؤى فنية مختلفة، لا ننكر أن الأغلب الأعم فيها جدير بالمتابعة، وأن بعضها أوقعته الغواية في شرك المباشرة واللجوء إلى الواقعية التسجيلية طائعاً، فالمعارك ما زالت مشتعلة على غير جبهة، ونيران الحرب لم تخمُد بعد، حتى يتبصّر الكتّاب والمخرجون في طبيعة أحداثها وتداعياتها الموجعة وجوانيات شخصياتها التي تلظت واكتوت بنيران التهجير واللجوء والفقدان، وأثخن روحها ووجدانها الحزن والانتظار.
أكثر من ثمانية أفلام روائية طويلة، حتى اللحظة، تابعناها بشغف ضمن مبادرة المؤسسة (السينما في بيتك) عبر منصة فيميو (vimeo) على شبكة الانترنت بدقة وجودة عالية، وكانت على التوالي: “درب السما” إخراج جود سعيد، سيناريو جود سعيد وأيمن زيدان مع سماح القتال ورامي كوسا، “أمينة” إخراج أيمن زيدان، سيناريو سماح القتال وأيمن زيدان، “عزف منفرد” سيناريو وإخراج عبد اللطيف عبد الحميد، “الاعتراف” إخراج باسل الخطيب، سيناريو باسل الخطيب ومجيد الخطيب، “دم النخل” إخراج نجدة أنزور، تأليف ديانا كمال الدين، “ماورد” إخراج أحمد إبراهيم أحمد، سيناريو سامر محمد إسماعيل عن قصة “عندما يقرع الجرس” للكاتب محمود عبد الواحد، “بانتظار الخريف” إخراج جود سعيد، سيناريو جود سعيد وعبد اللطيف عبد الحميد وعلي وجيه، و”العاشق” تأليف وإخراج عبد اللطيف عبد الحميد.
ندرك أن من حق المؤسسة وشركات الإنتاج الرديفة، المشاركة أو الداعمة، المحافظة على طقوس العرض في الصالات، ولو بالحدّ الأدنى من الربح، وعقد الندوات حول الأفلام التي تنتجها في النوادي والمراكز الثقافية، وفي الوقت نفسه المشاركة في المسابقات والمهرجانات الإقليمية والدولية، غير أن هذا الحرص الشديد على حماية إنتاجاتها، وندرة العرض التلفزيوني الذي اعتدناه في مناسبات عدة، دفع الفن السابع مرغماً وحصره في الشريحة النخبوية، فيما الجمهور في شرائحه الأوسع غارقٌ في غوايات مواقع التواصل الاجتماعي وقنوات اليوتيوب، وبرامج تلفزيون الواقع، والنسخ المقلدة الباهتة على الفضائيات والمحطات العربية لبرامج غربية موجهة فقط للتحكم بالميول والغرائز.
لقد أحيت مبادرة (السينما في بيتك) طقوس المتابعة الجماهيرية، وإن اختلف المكان، وينبغي الآن توجيه شغف المتابعة والرغبة في الاكتشاف والمعرفة لتحرير الفيلم السوري، في مستوى تلقيه وقراءته وفهمه، من النخبوية إلى الجماهيرية عبر استثمار الفضاء الإلكتروني، وتوثيق الصلات وتعزيزها بين صنّاع الفيلم والشريحة الأوسع من متابعيه، خاصة وأن الأفلام السورية التي أُنتجت خلال حقبة الحرب، وعُرضت في أكثر من مهرجان عربي أو دولي، حظيت وبسبب من القضايا الإنسانية التي تناولتها وحقيقة ما يجري داخل البلاد، فضلاً عن بيئة التصوير والخيارات البصرية والرؤى الإخراجية المبتكرة، بمتابعة ورضا واهتمام المشاهدين ولجان التحكيم، حيث نال “درب السما” ثلاث جوائز في مهرجان الإسكندرية السينمائي هي: جائزة أفضل سيناريو عن مسابقة الأفلام الدولية في مسابقة الأفلام الطويلة، جائزة “نور الشريف” لأفضل فيلم، جائزة أفضل ممثل للفنان أيمن زيدان. ونال “أمينة” جائزة أحسن إخراج في مهرجان مكناس للفيلم العربي بالمغرب. كما حاز “عزف منفرد” على جائزة الجمهور ضمن المسابقة الرسمية في الدورة الثالثة والعشرين من مهرجان الرباط لسينما المؤلف. وحاز “الاعتراف” على جائزتين في الدورة الخامسة والثلاثين من مهرجان الإسكندرية لأفلام البحر الأبيض المتوسط السينمائي، وهما جائزة “محفوظ عبد الرحمن” لأفضل سيناريو وجائزة أفضل ممثلة للفنانة ديمة قندلفت، وحصد “بانتظار الخريف” جائزة أفضل فيلم عربي في مسابقة آفاق السينما العربية في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي (2015)، كما فاز بجائزة أفضل سيناريو في مهرجان وهران للفيلم العربي بالجزائر في دورته التاسعة (2019).
إن ثورة التكنولوجيا فرضتْ خيارات إضافية، وفتحتْ آفاقاً جديدة لمنتجي المادة الفنية، وأحد هذه الخيارات إطلاق منصات إلكترونية تتيح للجمهور مشاهدة الأفلام والمسلسلات والبرامج بمختلف تسمياتها وهو جالس في بيته، ونجزم أن مبادرة (السينما في بيتك) خطوة في الاتجاه الصحيح لتعميم الثقافة السينمائية الجماهيرية بعد أن ظلت ردحاً من الزمن أسيرة للنخبوية التي فرضتها التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العقود الأخيرة، وكلنا أمل أن تواصل المؤسسة العامة للسينما هذه المبادرة، حتى بعد التخلص من حصار جائحة كورونا البغيضة.
عمر محمد جمعة