في مديح الكورونا ..
د. نضال الصالح
قيل: بالنار يُمتحن الذهب، وإنّ ما يميز الأصيل من الزائف منه غير شيء، ومن ذلك أنّ الأوّل لا ينجذب إلى المغناطيس، ولا يتأثر بالألوان المجاورة له، ولا ينصهر بالأحماض.. لكأنّ ما قيل لم يكن يعني هذا المعدن النفيس وحده، الذي كان من بعض أسمائه عند العرب النضار والتبر والعسجد، بل يعني الإنسان أيضاً الذي يكون عادة أحد اثنين لا ثالث لهما، أصيل وزائف.
وذات يوم سيُقال: بالكورونا امتُحن الناس كما امتُحنتْ الحكومات والدول، وإنّ ما كان يميز الأصيل من الزائف منهم غير شيء، ومن ذلك أنّ الناس كانوا في هذا الشأن أحد اثنين أيضاً: واعٍ بأنّ العلم وحده هو ما سيكبح طيش هذا الكائن المجهريّ طولاً وعرضاً في كوكب الأرض، وآخر مؤمن حدّ التسليم بالأطروحة القائلة إنّه ما مِن حذر يُنجي من قدر. ومنه أنّ الحكومات والدول كانت إحدى اثنتين: أولى استنفرت طاقاتها جميعاً في مواجهة هذا الطيش، وثانية، ولاسيما العربية، تابعت مسارها ومسيرتها في ثقافة الارتجال، فأمعنتْ في العبث بمصائر الناس وأقدارهم ومعاشهم.
لقد أسقط هذا الكائن المتناهي في الضآلة ورقة التوت عن منظومة الوعي التي تحكم علاقة الإنسان بالواقع حوله، وعن كثير من سوءات دول توصف بتفوقها العلميّ، وأخرى توهمت أنّ القوة هي ما يحكم العالم، وثالثة زعمت أنّ المدنية والحضارة خصيصتان ملازمتان لمجتمعات وشعوب وأمم من دون أخرى، وإذا كان ثمّة من سوء لهذا الكائن غير طيشه الكونيّ، فهو أنّه بدلاً من أن يأتي على الجهاز التنفسي لإرادات كانت قبله موتى، ثم صارت معه جثثاً متفسخة تزكم الأنوف بروائح عفنها وعطنها، أطال في أعمارها ليزداد الواقع تغولاً في خبطه العشواء بالحقّ والخير والجمال، استجابة لضرورة إنسانية ومجتمعية تقول: لا صوت يعلو على صوت المعركة مع وحش يعابث بأذرعه الخرافية النابتة من بطنه الكرويّ كوكب الأرض، وحش اسمه كورونا عرفت البشرية بسببه مرضاً جديداً اسمه كوفيد تسعة عشر، وبسببه أيضاً حصد هذا المرض حتى لحظة كتابة هذه السطور ما يزيد على مئة وعشرين ألف روح من البشر، ولمّا يزل تحت وطأة نهمه للموت ما يزيد على المليونين.
أيّاً كان مصدر الفيروس، والتفسيرات حول نشأته وانتشاره، التي ينتمي الأغلب الأعم منها إلى ما هو سياسي أكثر من نسبته إلى ما هو علميّ، فإنّ خمسة أشهر تقريباً مضت من عمره، ونحو شهرين من تصنيف منظمة الصحة العالمية له بوصفه جائحة، كافية، بل زائدة عن الكفاية، لإعادة الاعتبار إلى العقل، والضمير البشري، وثقافة المشترك الإنساني في بناء الحياة ضدّ ثقافة إشاعة الموت، والطهارة من دنس القوّة التي تريد التحكّم بهذا الكوكب الطاعن في الدماء منذ قابيل وهابيل.
وبعد، وقبل: أفلا يصحّ بعد ما سبق وسواه أن يُقال: شكراً للكورونا، مهما يكن من أمر أنه ذئب بامتياز.