أهلوك أحبابي
لن يكون عصيا على من أجلى المحتل الفرنسي، منذ بضعة عقود، في نيسان بديع ليس بالبعيد في الزمن، ومن طرد أعتى القوى في العالم بعد أن كنسهم من باحات وطنه وميادينها، قراها ومدنها، حواكيرها وشعابها، جبالها وسهولها، أن يعاود الكرة ويفعلها مرة أخرى مع كل احتلال واقع على هذه البلاد، البارحة واليوم وغدا، الشمال السوري والاحتلال التركي والأمريكي هناك، وفي الجنوب الحبيب حيث المحتل الصهيوني، وأي فكر أيضا ينتهج هذا النهج، فهذه البلاد تمرض، تعاني، تكابد، لكنها كما الأساطير لا تقع، في نفوس أهلها وبُناتها عبر التاريخ، هي طائر الفينيق الذي لا ينهض إلا من الرماد، ينبعث رشيقا، حرا، نقيا كما الينابيع، تشتعل فيها الحياة كأنما يقدح البرق في ظهر العتمة؛ هذا ما عرفه الأطفال بفطرتهم، هذا ما تعلمه التلاميذ فوق مقاعد دراستهم، سواء تلك الجالسة في صفوف المدارس، أو المنحوتة من الطبيعة في صفوف الحياة، هذا ما لأجله دارت القلوب والقبلات فأجمل التاريخ غدا.
إنه كلام رومانسي في بعض من جوانبه، لكن هذه الرومانسية هي من التفاصيل العريقة في روح السوريين، حتى في حروبهم تحضر الرومانسية كتقليد عريق من تقاليد فروسيتهم، إنهم يربون الورود في باحات بيوتهم وعلى شرفاتها، بل حتى إنها تأخذ مكانا عزيزا في صدر بيوتهم، تُعامل كما الأبناء بالرعاية الرقيقة واللطف، بيوتهم المتعربشة على بعضها البعض سواء كانت في الأماكن القديمة منها، أو تلك التي صنعها البؤس والشقاء أيضا، تُخبر بنباهة عن ذلك، العتبات المسكونة بجارتين يتكلمن وهن يقفن عليها حتى ينسين الدخول إلى المنزل، خطوط الهاتف التي ما زال السنونو والحمام يجدان عليها متكئا مناسبا لمزاولة شؤون الغرام، نعم إننا شعب تمشي الرومانسية بدمه، وإلا لما احتملنا كل القسوة التي مرت علينا، قسوة لا وصف يفيها حقها أو يفصح عن كينونتها، بل هي بجوهرها، كما خبرناها منذ دهور طويلة، ليس من السهل أن تكون قلب العالم النابض بما ما للكلمة من معنى، ليس من السهل أن تكون سورياً نحتتك هذه الأرض، سقاك ماؤها وأنبت روحك هواءها، هذا هو طيب الغرس، وهذا هو طيب المعدن، لذا فهذه البلاد لن تكون إلا كما يريده أهلها، دفعوا أثمانا لا ميزان أرضي لها، لأجلها هان الغالي عندهم، رخصت الحياة في عيونهم، لأجلها قرروا أن يصيروا آلهة وفعلوا.
تمّام علي بركات