بريطانيا تحاول استعادة الحياة الطبيعية.. والخبراء يحذّرون
تبحث أغلب حكومات بلدان العالم حالياً عن استئناف الحياة الطبيعية تدريجياً في مدنها، حيث تتفق جميعها على ضرورة وضع خطط للتعايش مع فيروس كورونا المستجد ضمن اجراءات وقائية تضمن عدم انتشار الفيروس مع تخفيف إجراءات الإغلاق الشامل، في ظل عدم توفر لقاح للوباء حتى الآن، مع حديث الخبراء عن إمكانية الانتظار عدة أشهر أخرى لاكتشافه.
وفي بريطانيا تستعد الحكومة لعرض خطة على رئيس الوزراء بوريس جونسون، حول إعادة فتح المدارس، وعودة الحياة إلى طبيعتها في البلاد، التي بلغ عدد الوفيات بسبب الفيروس التاجي المستجد فيها 15 ألفاً و464 حالة، حسب آخر إحصائية رسمية. وتتضمن الخطة، التي من المنتظر أن يطلع عليها جونسون بعد عودته إلى العمل وتعافيه تماما من فيروس كورونا، إعادة فتح المدارس اعتباراً من 11 أيار القادم، على أن يتم استقبال الطلاب في أيام محددة.
ومن المنتظر أن تسجل في الأسابيع المقبلة عملية إعادة فتح المدارس انتهاء تدابير العزل المعمول بها في دول أوروبية عديدة، رغم حديث البعض عن أنها مجازفة في وقت لم يتم بعد احتواء تفشي وباء كوفيد-19 كلياً.
وحسب صحيفة صنداي تايمز فإنه في حال وافق رئيس الوزراء البريطاني على الخطة، سيعود طلاب المرحلة الابتدائية أولاً إلى المدارس، على أن يتم فتحها بالكامل لاحقا سواء في الأول من حزيران أو مطلع أيلول القادم.
وفيما يخص عودة الحياة إلى طبيعتها، تنص الخطة في المرحلة الأولى على فتح مراكز التسوّق، التي يتم فيها مراعاة مبدأ التباعد الاجتماعي، مع رفع القيود المفروضة على خدمة المواصلات عبر الحافلات والقطارات.
وتنص الخطة أيضاً على السماح مطلع حزيران القادم لجميع العاملين بالعودة إلى أعمالهم، بجانب السماح بتنظيم بعض الفعاليات، فيما سيتم التريث حتى تموز من أجل إعادة فتح المطاعم والملاهي وإقامة الفعاليات الرياضية والحفلات الموسيقية.
وتشدد الخطة على استثناء كبار السن من الخروج إلى الشوارع، على اعتبار أنهم الأكثر تضرراً من فيروس كورونا.
وينتظر البريطانيون خطة الحكومة بفارغ الصبر لكن المرحلة تبدو في غاية الضبابية حتى لدى الحكومة مع وجود سيناريوهات كثيرة، وافتقار المسؤولين المعنيين للإجابة عن الأسئلة المطروحة حولها رغم طبيعة الحياة في المملكة المتحدة التي تختلف عن مدن أخرى اتخذت إجراءات مماثلة مثل الصين وكوريا الجنوبية.
ويتم الاستشهاد بالتجربة الكورية كثيراً كقدوة، إذ قامت بإجراء اختبارات شاملة للتعرف على من يحملون الفيروس، وفرضت الحجر الصحي على الحالات الإيجابية، وتتبعت الأشخاص الذين كانوا على اتصال بهم لإخضاعهم بدورهم لاختبار الكشف عن الفيروس.
وخففت كوريا الجنوبية بعض القيود على الكنائس والأحداث الرياضية مع تسجيل ثماني حالات إصابة جديدة فقط وهو أقل عدد للإصابات منذ شهرين.
لكن هذه البلدان الآسيوية، منها الصين أيضاً، رغم اختلاف تعداد سكانها فإنها شهدت منذ ظهور الفيروس فيها اجراءات صارمة أجبرت سكانها على المثول في بيوتهم وحظر التنقل لأسابيع عديدة، على عكس بريطانيا التي تأخرت نسبياً في اعتماد تدابير تحد من حرية الناس أو تجبرهم على عدم التنقل بين المدن.
وأمس الأحد، اتهمت صحيفة التايمز الحكومة بـ “تفويت العديد من الفرص” و”اللامبالاة” في مكافحة كورونا في مقال حمل عنوان “38 يوماً سارت فيها بريطانيا وهي نائمة نحو الكارثة”، وشددت على أن الحكومة أضاعت 5 أسابيع سدى، مع أن البلاد لم تكن مهيئة للتعامل مع الوباء، وأضافت: إن العلماء ومخططو حالات الطوارئ قالوا: إن اللامبالاة سادت الحكومة في أواخر الشهرين الأولين من العام الحالي، وهي فترات يتوجب فيها تجديد المخزون من المستلزمات الطبية.
ونقلت الصحيفة عن مصدر عن لم تسمه، بأن أعضاء الحكومة كانوا يمزحون فيما بينهم قائلين “نأمل ألا تصيبنا عدوى الوباء”.
بدوره قال مسؤول رفيع في وزارة الصحة، فضّل عدم الكشف عن هويته، بحسب الصحيفة، إن حكومة بلاده “فوتت فرصة كبيرة فيما يتعلق بالاختبارات ومعدات الوقاية الشخصية”، وشدد أن الحكومة البريطانية اكتفت بمتابعة المجريات في مدينة ووهان الصينية التي ظهر فيها الوباء، وأضاف “إن احتمال حدوث وباء كان على رأس خططنا الوطنية للمخاطر في فترة من الزمن؛ وعند حدوثه بالفعل اكتفينا بالمتابعة البطيئة”، وقال: “كان يمكن أن نكون كألمانيا؛ إلا أننا بدلاً من ذلك دمّرنا أنفسنا، بسبب عدم كفاية تدابيرنا وغرورنا”.
وفي المرحلة الأولى من تفشي الفيروس، جرّبت حكومة بريطانيا طريقة “مناعة القطيع”، من خلال اتباع نشر الفيروس بين أفراد المجتمع بشكل ممنهج لتجاوز الأزمة، إلا أنها تراجعت عن هذه الخطوة بعد تلقيها تقارير وانتقادات تفيد باحتمال وفاة أكثر من 300 ألف شخص جراء الفيروس.
وحسب دراسة حديثة لجامعة إسيكس فإن تقديرات معهد البحوث الاجتماعية والاقتصادية تشير إلى أن اجراءات الإغلاق في بريطانيا تهدد 6.5 مليون وظيفة أي حوالى 5 بالمئة من إجمالي الوظائف في البلاد.
واقترحت مجموعة من الخبراء في بريطانيا مثلاً أن يتم اختيار مدينة واحدة في البلاد تكون فيها الكثافة السكانية كبيرة تتراوح بين 200 ألف و300 ألف ساكن لتجربة برنامج الاختبار الشامل.
وحسب هؤلاء الخبراء، من بينهم: جوليان بيتو، الأستاذ في كلية لندن للصحة والطب الاستوائي، وديفيد هانتر، أستاذ علم الأوبئة في جامعة أكسفورد، ونيسرين علوان، أستاذة مشاركة في الصحة العامة في جامعة ساوثهامبتون، فإن الحجر الصحي للمدينة التي يتم فيها التجربة ينتهي كلياً عندما يتم اختبار جميع سكانها وتكون الاختبارات سلبية.
ويمكن بعد ذلك اتخاذ قرار بشأن بدء تنفيذ الخطة تدريجيا على بقية المدن الأخرى حتى تتم السيطرة على الوباء تدريجياً في كل البلاد، لكن الشكوك في حالياً حول إمكانية قدرة الحكومة على إجراء 100 ألف اختبار يومياً بحلول نهاية الشهر تبقى عائقا أمام هذا الحل.
ويرى الخبراء والعلماء الطبيون أن خطتهم يمكن الاعتماد فيها على استراتيجية “اختبار وتتبع” واسعة النطاق لتخفيف تبعات الإغلاق على غرار التجربة الكورية.
وعادة ما تكون علامات تباطؤ الوباء، ومنها انخفاض عدد المرضى في المستشفيات والوفيات، نقطة انطلاق العديد من البلدان للبدء قريباً بتخفيض تدابير الاحتواء من خلال إعادة فتح المدارس والمحلات التجارية تدريجياً والسماح للناس بالعودة إلى العمل.
ورغم ترحيب البعض بوضع الحكومة لخطة يمكن اعتمادها لتدارك الوضع يبقى جدل تطبيقها والموافقة عليها مصدر قلق وضبابية حتى لدى المسؤولين.
وأمس، قال وزير شؤون مجلس الوزراء البريطاني مايكل جوف إن الحكومة لا تفكر في تخفيف إجراءات العزل العام، مشيراً إلى أن “الحقائق والإرشادات واضحة حالياً بأننا لا ينبغي أن نفكر في رفع هذه القيود بعد”.
وتتفق بعض الحكومة الأخرى على مبدأ ضرورة العودة إلى الحياة الطبيعية تدريجياً، ففي فرنسا مثلاً من المقرر أن يتم تخفيف القيود تدريجياً في 11 أيار، حسب الخطة التي تحدث عنها الرئيس إمانويل ماكرون الاثنين الماضي، رغم معارضة عدد كبير من أولياء الأمور على عودة أبنائهم إلى المدارس في ظل عدم السيطرة على الفيروس بعد.
ورغم محاولة ماكرون طمأنة الفرنسيين عبر اجراءات تخفيف الإغلاق التي تحدث عنها، عجز رئيس الوزراء إدوارد فيليب عن إعطاء تفاصيل واضحة لخطة الرئيس، حيث اكتفى بالقول الثلاثاء الماضي أنه سيتحدث عنها “عندما تكون جاهزة قبل 11 مايو”.
وفي أوروبا تعتزم ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وسويسرا والدنمارك وإيطاليا وإسبانيا، من بين دول أخرى، البدء بتخفيف القيود في منتصف أيار أو تفكر بذلك. أما دونالد ترامب فقال إن الوقت قد حان “لإعادة تشغيل” عجلة الاقتصاد الأميركي.
وتبقى الخطة التي ستعتمدها أي حكومة لفتح الإغلاق المعتمد قبل كل شيء رهينة وجود استراتيجية دقيقة للغاية مثلما فعلت كوريا الجنوبية وكنت نتائجها جيدة.
ولإنجاح هذه الاستراتيجية يبقى توافر الوسائل الضرورية مثل العدد الكافي من الاختبارات والخدمات اللوجستية لضمان تعقب المرضى المحتملين مع توفر التطبيقات الرقمية، من ضمن أهم مستلزمات المرحلة.
ويقول البروفسور جان فرانسوا دلفريسي وهو رئيس اللجنة العلمية التي تقدم المشورة للسلطات الفرنسية إن كوريا الجنوبية لديها “قوة عظيمة، لواء يضم 20 ألف شخص” لتنفيذ إجراءات تعقب الاتصالات، محذرا من “وهم” الاتكال على كل ما هو رقمي.
من جهة ثانية، فإن الاستراتيجيات الأخف من العزل الكامل حتى عندما تنجح، ليست مضمونة على المدى الطويل، وهو ما تشير إليه تجربة سنغافورة. فبعد السيطرة على الوباء في البدء باعتماد سياسة مشابهة لتلك التي اتبعتها كوريا الجنوبية، تحارب سنغافورة الآن موجة ثانية من الإصابات. لقد أجبر هذا الحكومة على اللجوء هذه المرة لاتخاذ إجراءات صارمة، بما في ذلك إغلاق معظم أماكن العمل.
ويقول دلفريسي إنه، بدلا من اللجوء إلى حل واحد لا لبس فيه، “ربما ينبغي اللجوء ولفترة طويلة لتدابير التخفيف ثم التشدد، ثم الانفتاح والعودة إلى التشديد”.
هذا أيضاً ما خلصت إليه دراسة أميركية نُشرت هذا الأسبوع في مجلة “ساينس”. وتقول الدراسة إنه يفترض على الأرجح التبديل بين فترات الحجر والتخفيف حتى عام 2022، أي الوقت اللازم لاكتشاف علاجات فعالة وربما لقاح ضد الفيروس المستجد.