الإعلام الألماني يصعد حملة الافتراءات ضد سورية
د. مازن المغربي
يوماً بعد يوماً، يتضح بجلاء أن حرية الإعلام في البلدان الغربية الكبرى لا تعدو أن تكون أكذوبة، فلا يوجد وسائل إعلام حرة، وكل صحيفة أو مجلة أو محطة بث تتبع للجهة التي تمولها.. يكفي أن يتصفح المرء أي مجلة أو صحيفة كبرى ليتبين الزبائن الذين تروج لمنتجاتهم ويرتبط تمويلها بأجور إعلاناتهم. هذا ينطبق في المقام الأول على الإعلام في الولايات المتحدة، لكن ما من دولة غربية تشذ عن هذه القاعدة؛ فالإعلام، إلى جانب نظام التعليم، هو وسيلة التحكم بعقل المتلقي وإعادة تشكيله بشكل مستمر ليتقبل خطاب النخبة الحاكمة بوصفه قائماً على حقائق ملموسة، ولا يقصد إلا خدمة الشعب. واليوم، وبعد مرور كل هذه السنوات الصعبة من الأزمة التي تم فرضها على سورية، صار من الجلي أن الحكومة الألمانية بزعامة المستشارة أنجيلا ميركل تلعب دوراً محورياً في الهجمة على الشعب السوري، ولا توفر أي طريقة لتدمير بلاده؛ فقد شاركت قوات من مختلف أسلحة الجيش الألماني في الحملة العسكرية على سورية، وكان هناك دور للطيران الحربي، وللبحرية، وحتى للقوات البرية؛ كما كان للحكومة الألمانية بزعامة ميركل دور بارز في فرض العقوبات الاقتصادية التي فاقمت الأوضاع المعيشية لملايين السوريين؛ أما ما يتعلق بوسائل الإعلام الألمانية الكبرى، فقد كان لها دور كبير في التمهيد لاندلاع أعمال العنف في سورية، وللترويج لسردية الحرص على مصالح الشعب السوري والدفاع عن “معارضة سياسية شعبية”.
وخلال السنوات الكبرى تتالى نشر كتب فضحت طريقة عمل وسائل الإعلام الألمانية الرئيسية وتبعيتها للنخبة الاقتصادية الحاكمة، وارتباطها باجهزة الأمن في ألمانيا وفي الولايات المتحدة.
ففي عام 2014، نشر الصحافي الألماني أودو أولف كوتة كتاباً حمل عنوانا رئيسيا (صحافيون تم شراؤهم)، وعنواناً فرعياً (كيف ترتبط وسائل الإعلام الجماهيرية الألمانية بالسياسيين وأجهزة الأمن وعالم المال)، وقد تضمن الكتاب شرحاً مفصلاً لطريقة شراء العاملين في حقل الإعلام، وحظي بانتشار واسع حيث أعيدت طباعته أربع مرات في سنة واحدة.
وقابلت وسائل الإعلام ما ورد في الكتاب بتجاهل كامل لكل ما ورد فيه من أسماء لإعلاميين كبار يتلقون رواتب منتظمة من شركات ومن أجهزة استخبارات ألمانية، ناهيك عن العلاقة الوثيقة مع وكالة الاستخبارات المركزية في الولايات المتحدة. وقيل وقتها أن مؤلف الكتاب صحافي مغمور يبحث عن الشهرة، وأنه يعاني من مرض عضال في محاولة للتخفيف من وقع الكتاب على الجمهور.
ثم دخل على الخط صحافي من النسق الأول هو يورغن تودن هوفر صاحب المكانة الرفيعة. فالرجل كان عضواً في البوندستاغ من العام 1972 وحتى العام 1990، نائباً عن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي تنتمي إليه المستشارة ميركل، وترأس ما بين 1987 و2008 مؤسسة إعلامية دولية ضخمة، ويٌعد من أشد منتقدي عمليات التدخل العسكري في الشرق الأوسط. وقد حمل كتابه عنوان (الخديعة الكبرى)، وكان عنوانه الفرعي (كيف يقوم الساسة ووسائل الإعلام بخيانة قيمنا). وزار هذا الصحافي معظم بلدان الشرق الأوسط، كما زار سورية ونقل عن الصراع الدائر فيها صورة التزمت القواعد المهنية. وكان يشدد على انحياز وسائل الإعلام الكبرى وتجاهلها المطلق لمصالح الشعوب.
وقد أتيحت للكاتب فرصة زيارة سورية والاجتماع بكبار المسؤولين فيها، وساهم في تمويل صناعة أطراف صناعية لضحايا التفجيرات الإرهابية، واتهم المستشارة ميركل، في الصفحة 193 من كتابه، بإضاعة فرصة ذهبية لإنهاء الأزمة في سورية عام 2015 نتيجة رفضها قبول دور الوسيط في مناقشة اقتراح حل قام هو شخصياً بنقله عبر رسالة إلى المستشارة الألمانية.
ونصل إلى كتاب ثالث يتضمن الكثير من المفاجآت التي تعنينا كسوريين. فكاتب المقال هو صحافي من اسبانيا يكتب باللغة الألمانية، ويدعى خوان مورينو، ويعمل بوصفه مراسلاً حراً لمجلة دير شبيغل، أهم وسيلة إعلام مطبوعة في ألمانيا. وكان عنوان الكتاب (آلاف السطور من الكذب)، أما عنوانه الفرعي فهو(نظام ريلوتيوس والصحافة الألمانية)، والمقصود الصحافي الألماني الأعظم شهرة كاس ريلوتويس، الحائز على العديد من الجوائز الدولية، ناهيك عن فوزه بلقب أفضل مراسل في ألمانيا على مدى أربع سنوات متتالية، وهذا إنجاز لم يسبقه إليه أحد. وقد صدر الكتاب عام 2019، والنسخة المتوفرة لدي هي من الطبعة الخامسة التي صدرت في تشرين أول 2019، أي أن الكتاب حظي باهتمام واسع. وقد تبين لهذا الصحافي أن تقارير زميله اللامع ريلوتيوس تتضمن ثغرات غريبة قائمة على الكذب وفبركة الحكايات، فبادر إلى متابعة ما يكتبه، وعاد إلى كتاباته القديمة، وفوجىء بكمية هائلة من الكذب.
لفت انتباه مورينو أن زميله يختار كل مواضيعه في بلاد بعيدة، ويعتمد على شهادات متناقضة يدعمها بصور مأخوذة من منشورات إعلامية في بلدان أخرى. طرح الموضوع على رؤسائه الذين اتهموه بالغيرة ومحاولة البروز على حساب التشهير بإعلامي ناجح. في النهاية، اعترف كلاس ريلوتيوس علناً بأنه كان يعتمد على خياله، وأنه حاول إرضاء القراء. وتشاء الصدفة أن تكون رواية ريلوتيوس عن اندلاع الأزمة في محافظة درعا هي التي تبناها كل الإعلام الغربي وروجها بوصفها حقيقة معتمدة على رواية أشخاص يحظون بالثقة، علماً أن صاحبنا لم يكن في درعا وقت اندلاع الأحداث، وادعى انه اعتمد على ما أرسله إليه الشخص الذي اعتمد عليه في موقع الحدث، وهو طفل لم يتجاوز الثالثة عشر، أما كيف تواصل مع هذا الطفل، وما هي اللغة التي اعتمدها في تلقي الأخبار منه.. فتفاصيل لا تهم أحداً!!.
لا يتعلق الأمر بحوادث فردية، بل بنظام إعلامي قائم على الكذب واختلاق القصص بشكل مدروس. وثمة مراجع نظرية عديدة حول كيفية فبركة الأخبار، من ضمنها كتاب (مدخل إلى التزوير) من تأليف لينوس راشلاين، حيث نقرأ:
“الدرس الأول: عليك في البداية أن تسأل نفسك ما الذي يريده الناس؟ أين يتجه فضولهم؟ وعليك أن ترسم لهم لوحة لطالما طال انتظارهم لها، لوحة تجعل دموع الفرح تسيل من أعينهم، فالدموع تعمي العينين جزئياً. هم تمنوا من أعماق قلوبهم مشاهدة مثل هذه اللوحة، وبما أنهم شاهدوا هذه اللوحة الآن، وتم تحقيق أمنيتهم، فسيتولون بأنفسهم الدفاع عنها ضد أي تشكيك”.
خطر ببالي هذا المقطع وأنا أقرأ رسالة من صديقة بريطانية، هي مدرسة أكاديمية في العلوم السياسية، أخبرتني فيها عن يأسها وهي تحاول إقناع بعض معارفها بان إدلب مدينة سورية، وليست مدينة تركية يحاول الجيش السوري اقتحامها!! كانت مقدمة طويلة بعض الشيء إنما ضرورية للرد على مقال نشرته مجلة دير شبيغل الألمانية في الأسبوع الأول من هذا الشهر، حول جائحة كورونا في سورية. تضمن المقال مجموعة أكاذيب ومغالطات تتعارض مع الحد الأدنى للمنطق السليم. وحمل المقال عنواناً استفزازياً (نحن نرحب بالموت)، ونسبه كتاب المقال إلى عنصر حاجز تفتيش قال هذه الجملة رداً عن سؤال عدم تقيده بوضع كمامة وقفازين!! شارك في كتابة المقال مجموعة من الصحافيين بهدف إضفاء طابع مهني عليه، وتضمنت المجموعة اسم شخص يٌفترض أنه سوري، هو دحام الأسعد، أما شركاؤه فكانوا ماتياس غيباور، وغيوم بيريه، وماكسيميليان بوب وكريستوف رويتر.
اعتمد المقال على فرضية أن الجهات المعنية في سورية تحور الحقائق في كل ما تعلنه عن وضع الجائحة، وأن هناك إصابات واسعة ووفيات عديدة. بدأ المقال بذكر حادثة فرض الحجر الصحي على طالبة سورية جاءت من لندن عبر الإمارات إلى دمشق مع التلميح على أنها ابنة شخصية مهمة.. وكالعادة، لم يتم ذكر اسم ولا تفاصيل وفق تعليمات ريلوتيوس. ولم ينس كتاب المقال تدعيم موقفهم بمخططات بيانية عن انتشار الجائحة في مختلف أنحاء العالم بهدف إضفاء مسحة مصداقية عليه. ويٌفترض بالقارىء تصديق شهادة طبيب من مدينة ساحلية توسل إلى الصحافيين عدم ذكر اسمه، أو اسم مدينته، لأن “عناصر الأمن هددوه بالقتل” إذا باح بمعلومة حول وضع الجائحة. وهذا يناقض كل ممارسات وزارة الصحة السورية التي تعتمد الشفافية التامة في التعامل مع الأمور الصحية، وهذا ما لمسته شخصياً خلال قرابة عشرين عاماً من العمل في البرنامج الوطني للاستجابة لمتلازمة نقص المناعة المٌكتسبة.
كما أورد المقال خبراً منقولاً عن طبيبين في مشفى تشرين العسكري ادعيا فيه تشخيصهما لأعراض الإصابة بالفيروس لدى أعداد كبيرة من “المقاتلين الإيرانيين والأفغان والباكستانيين واللبنانيين والعراقيين”، وهذا أمر يناقض كل منطق، حيث أن أعداد مقاتلي الجيش العربي السوري تتجاوز بمئات المرات أعداد القوات الرديفة، لكنها مناسبة للإيحاء بأن من يدافع عن الدولة السورية هم أشخاص غير سوريين، وهي فكرة حاول الإعلام الغربي غرسها بمختلف الوسائل في عقول المتلقين. لكن أصول مهمة تزوير الحقائق اقتضت تحديد اسم المشفى العسكري مع تجاهل إيراد أي شيء يتعلق باختصاص الطبيبين المزعومين، وهل تم التواصل معهما سوية، أم كل على حدة، دون الإشارة إلى واقع أنهما أدليا بشهادة إلى جهة أجنبية تتعلق بالسر المهني. أما الطامة الكبرى فهي شهادة طبيبة من دمشق زعمت أنها أحصت بنفسها خمسين حالة وفاة بالفيروس في المشفى الذي تعمل فيه. كما لو أنه لا يوجد في سورية سوى هذه الطبيبة، لأن وقوع خمسين حالة وفاة يفترض وجود أكثر من ألفي إصابة، فكيف تمكنت هذه الطبيبة الاستثنائية من التأكد من وفاة خمسين شخص في مشفى واحد، وهذا أمر كان سينتشر بين الناس في بلد لا يٌخفى فيه شيء، سيما بعد أن منحت وسائل التواصل الاجتماعي كل فرد إمكانية نشر ما يشاء. ولتكتمل الصورة، كان لا بد من ذكر مدينة حلب، حيث أورد كتاب المقال تصريحاً لطبيب قال فيه أنه شخص بنفسة أربع وفيات بالوباء.. وطبعاً لم تكن هناك إشارة إلى اختصاص هذا الطبيب، ولا إلى واقع أنه شخص الحالات في مشفى أم في عيادته؛ ثم شهادة لسائق سيارة إسعاف قال فيها أن عدد حالات الإسعاف بأعراض المرض ارتفع خلال الأسبوعين الماضيين.. وطبعاً، بما أن موضوع إدلب حاضر في أذهان المتلقين، كان لا بد من شهادة طبيب من المدينة قال فيها أنه وزملاءه أرسلوا مئات عينات المسح إلى دمشق للتأكد من تشخيص المرض.. إنما لم يتلقوا أي ردّ!!
يأتي نشر هذا المقال في وقت تعالت فيه الأصوات المنددة بالعقوبات المفروضة على العديد من الدول بما يتعارض مع القانون الدولي، وتزامن هذا مع قرار الولايات المتحدة الأمريكية تعليق مساهمتها في تمويل منظمة الصحة العالمية، الأمر الذي سيعرقل الجهود المبذولة لاحتواء الوباء. وكل هذا يندرج في إطار حملة إعلامية مٌغرضة تسعى إلى تشديد الضغط على أي حكومة ترفض الانصياع لإملاءات الممسكين بالقرارات المصيرية التي تسير شؤون هذا العالم.