طلال سليم يشرع أبواب الدهشة و “يشعرن” الأشياء!!
من أهم الوظائف التي يؤديها الشعر في يومنا هذا هي وظيفة الجمال.. الجمال الذي بات سمة قليلة أمام الكم الكبير من فوضى الشعر الذي نعيشه، لذلك حين نقرأ نصا جميلا نشعر بالامتنان لصاحبه، فقد سمح لنا بالدخول لحديقته السرية لنجد روحنا معلقة بسحر المكان. والشعر الساخر يحاكي الواقع ويقدم رؤية شعرية مميزة بأسلوبيتها إذ يلامس المتلقي، وهنا لابد أن نتذكر الأديب الساخر محمد الماغوط والذي مرت ذكرى رحيله الرابعة عشرة منذ عدة أيام، وقد استطاع تطويع اللغة واستثمار آلامه وآلام المواطن العربي في حياكة نصوص نرتديها كلما عضنا جوع أو برد أو فقر.
وحين نقرأ مجموعة “أحد عشر إصبعا” الصادرة عن دار بعل عام 2011 للشاعر طلال سليم نجد أنه قد أهدى مجموعته هذه “إلى روح محمد الماغوط التي تتجول ساخرة بمرارة” وقد اصطبغت نصوصه بهذه السخرية المرة، فهو يبحث عن العدل، عمن ينصف الإنسان جاعلا الرمز والإسقاط أدواته ضمن لغة بسيطة قريبة من المتلقي لدرجة الالتصاق، فالنص الساخر لا يحتمل الكلمات المعجمية الصعبة يقول في نص “عدالة”: قال خروف جزّ صوفه للتوّ: ما أبغضكم.. تتدثرون بثيابي.. وأنا أرتجف.. قال الجزار…: لا ترتجف يا حبيبي.. سأشعل لك النار!!.
يتجنب طلال سليم عنونة عدد من قصائده مستعيضا عن ذلك بعدة نقاط قاب قوسين، وكأنما العنوان يضيق على القصيدة، القصيدة التي شغلت مواضيع متعددة بين الساخر والحب والوجداني، فطلال العاشق يمزج بين الحالتين أيضا ليقدم نصا مرصعا يقول في أحد نصوصه غير المعنونة: دبوسٌ.. اعتقل فتحة قميصك.. كديكتاتورٍ بغيض… لو تعلمين.. لو تعلمين سينتهي العمر وأنا أصرخ حرّيّة!
في هذه المجموعة يرافقك المطر في كثير من النصوص وفي كل مرة يرتدي ثوبا جديدا، فالمطر هو مطر الشتاء أحيانا وفي مواضع أخرى يكون ظرف زمان (منذ حفنة مطر) (أذكر ذات مطر) ومرة أخرى هو شخص يغرق (قالت للمطر ألا تخشى الغرق)؟.
ومن سمات القصيدة عند الشاعر طلال سليم أيضا شعرنة الأشياء وتشخيصها (بكت شجرة الليمون أوراقا يابسة/ حين رأت ابنتها البرتقالة/ تتعرى خجلا تحت تهديد السكين/ والأصابع المزمجرة!!) يكشف لنا هذا النص عن مدى حساسية الشاعر ورؤيته المختلفة تجاه الأشياء ليبعث فيها الحياة ويجعلنا أمام نص مليء بالدهشة، ومن هذه النقطة يمكننا الانتقال إلى مجموعته “شهوة الخريف” الصادرة عن دار بعل عام 2013 إذ يعنون أحد أبوابها “ماذا لو تكلمت الأشياء” حيث نجد نصوصا متباينة في دهشتها حيث تذهب بعضها نحو الاستسهال فتفقد بريقها (حبة الدواء مريضة) في حين نجد نصوصا باذخة الدهشة (عقرب الساعة العجوز، كم حلم لو عادَ مشاغبا، كطفل الثواني).
يقسم طلال مجموعته إلى أبواب فيها عدة قصائد تحت عنوان واحد “خريف، شتاء، حكايات”، نقرأ في هذه النصوص حضور الطبيعة والقرية بشكل خاص إذ يستطيع المتلقي تكوين صورة للقرية التي احتضنت كل تفاصيل روحه وتمكنت من تأجيج مكمن القصيدة فيه مانحة إياه مفرداتها وصورها، ولكن إلى متى يمكن للشاعر إعادة تشكيل هذه المفردات، بمعنى آخر ألا يجب البحث في تطوير اللغة وتجديدها كي لا تقف القصيدة عند عتبة معينة تدور في فلك واحد، لذلك نجد طلال سليم قد ذهب نحو صياغات جديدة ومبتكرة مضيفا مفردات جديدة دون الابتعاد عن الطبيعة وعناصرها في بعض نصوصه: للنهر حصالةٌ/ يضع فيها الحصى الجميلة/ ثم يزفها على ضفتيه/ إكراما لأطفالٍ/ نزلوا لمصافحته.
بهذه الحساسية العالية والشجن المتواري تأتي مجموعته “حكايات مسمارية” الصادرة أيضا عن دار بعل 2014 لتقدم نصوصا وومضات شعرية بلغة جديدة: (قالت طفلةٌ: أبي من كسر جرار عينيكَ..؟ فسال الدّمع). في هذه المجموعة يكتب طلال قصائده بتقنية عالية وأسلوبية تختلف عن سابقاتها فهو يحاول صقل نصه وتشذيبه رافعا صوت الطفل الذي يسكنه، لنرى بأن هناك أسئلة ضمنية تنتظر من يجيب عليها، هذه النصوص والتي لا تتجاوز الصفحة لكل نص، تتجه نحو التكثيف والشعرية العالية حيث تأتي الخاتمة الصادمة والمدهشة: الريح تمشط شعر العشب/ لتغريه بالرحيل معها/ دائما تمضي وحيدة/ وغالبا ما يبقى/ يقبل ثغر حبيبته الأرض. إن قراءة المجموعات الثلاث للشاعر طلال سليم تتطلب توسعا قد لا يتاح لنا هنا لكي نتلمس المراحل التي مرّت بها القصيدة والتطور الذي لحقها لتنضج من فطريتها وبكريتها بقالبها الساخر ورهافة الشاعر التي تصل إلينا بكل سلاسة من خلال المفردات البسيطة والسهلة في تكوين نصوصه.
طلال سليم شاعر سوري له أربع مجموعات شعرية هي: “لنجالس المطر” دار الطليعة الجديدة 2005، “أحد عشر إصبعا، شهوة الخريف، وحكايات مسمارية” صادرة عن دار بعل من القطع المتوسط.
خضر مجر