رصاص طائش!؟
د. نهلة عيسى
أنا على رأي “البيسة”، مختار قرية أم الطنافس الفوقا، بنت حكومة!! ولأنني كذلك، أقوم بالترفيه عن نفسي في الحجر الطوعي بمشاهدة ما تعرضه علينا شاشات تلفزة الحكومة باعتباره برامج كوميدية، إلا أنني اكتشفت أن دمي ليس خفيفاً، ولا أمتلك حس النكتة، لأن لا شيء مما عرض علينا أضحكني، والمؤكد على رأي “عادل الفساد” في مسلسل ضيعة ضايعة: أن العيب ليس في البرامج، حاشا وكلا، والمؤكد والأكيد أنني على ما يبدو نكدية!! ولذلك أتابع “دورة الأغرار”!.. أقصد المشاهدة، من باب الواجب الوطني!
كما أتابع شريط الأخبار يحصي عدد إصابات ووفيات سيء الذكر (كورونا)، وتصلني كل يوم على وسائل التواصل الاجتماعي عشرات الفيديوهات والمقالات شارحة كيف سيغير كورونا عالمنا وبناه السياسية والاقتصادية، فأهجر شريط الأخبار إلى “ضيعة ضايعة”، ولا أحتسي الفيديوهات والمقالات التزاماً بقواعد الصحة العامة، وشروط الحجر الطوعي، وقواعد التباعد الاجتماعي لمنع انتشار كورونا والمتحدثين باسمها، والمدعين معرفتها، ومعرفة من “خلفوها”، ومن سيرثونها!!
ورغم أن أرقام إصاباتنا ووفياتنا تجعل بلدنا يبدو وكأنه “فرفور ذو الذنب مغفور”، إلا أنني مصرة على هجر الأخبار، وتجنب المدعين المفوهين، لأن ذلك من وجهة نظري أقل همومنا، لأننا واقعاً في قلب المخاض الدولي الجديد المتعسر منذ تسع سنين، وليس مثل البقية منذ شهرين، وقد عاينا وعانينا من “طقة مية راسه”، ونحن في غرف الولادة القيصرية منتظرون، منذ أكثر من ثلاثة آلاف يوم.. لا ممرضة بشرتنا أو عزتنا، ولا طبيب رد على أسئلتنا، ولا سمعنا صراخ وليد، ولذلك فكورونا مجرد تفصيل صغير في حكايتنا البائسة ذات الظل المديد الطويل!
تفصيل ربما يكون قد منح لثعالب عيشنا التمادي في قضم آخر ما في جيوبنا من ملاليم، إلا أنه ليس سبباً رئيساً في ذلك، فهو في زحمة قصف الأسعار المنهمر فوق رؤوسنا، ودواعي موتنا، يبدو مجرد رصاص طائش في المسافة ما بين بداية الحرب وكل يوم من أيامنا المعتلة، حيث لا أحد يريد أن يسمع سوى ما يريد؛ ومأساة هذا البلد، منذ ألف حين وحين، أن أصحاب قراره حتى الآن لم يدركوا أنهم كانوا ومازالوا لا يسمعون ما يجب أن يكون، بل يسمعون ما يريدون، بحجة أن النهار وضوح، رغم أن الدم تحت أظافر النهار الطويلة، فلا يغرنكم الوضوح، فالوقاحة أيضاً وضوح، والفجور وضوح، والعهر وضوح، والخيانة وضوح، ومن باعوا هذا البلد الحزين، وسرقوا حبات قلوبنا، تذرعوا بالوضوح!
ولذلك ومن باب المشاركة في “الوضوح” قررت اليوم أن أُطفئ هواتفي وشاشات تلفزة الضحك الوطني، وأن أغلقُ النوافذ، وأتكور في حضن سريري، مستجدية النوم، أو النسيان، أو حتى فقدان الذاكرة، على أمل أن أصحو مثل “أهل الكهف” في زمن آخر، ربما لن يكون أفضل مما نحن فيه، ولكنه على الأقل سيكون زمناً لا أنتمي إليه، ولا أعرف أحداً فيه، ولذلك لن يوجعني موت، ولن يغضبني كذب، ولن يقهرني ظلم، ولن يشقيني عجز، ولن يمزقني تقاعس، ولن تبكيني هزيمة توكيل الصغار بعظائم الأمور، والكبار بتوافه الأمور، لنضيع بين الإفراط والتفريط!!
أحلم بنوم “أهل الكهف”، لأن قلبي جائع لحقيقة “حقيقية”، وقد سئمت الشعارات على الشاشات والجدران، وهذا الاحتضار الطويل، وأرغب حقاً بوداع هذا الزمن المشؤوم؛ لكن المشكلة أنني أخاف أن أقابل في الزمن الآخر، ما هربت منه في الحاضر، ذلك لأن البلد بكل مؤسساتها من أهل الكهف تنام قريرة العين عن كل شواغل الغد، لا يؤرقها سؤال، ولا تبحث عن جواب، رغم سنوات الحرب الطويلة، وكورونا وأخواتها اللواتي رمين في وجوهنا ألف سؤال وسؤال، لكن من لم يجب على ماذا، ولماذا، لا أظنه مهموماً بالإجابة على كيف!؟