الظواهر المدهشة.. هل يأفل نجمها؟!
عاد الوئام بيني وبين الشاشة الفضية الصغيرة “التلفزيون” بعد شبه قطيعة تدرجت مستوياتها منذ أن ابتلينا بإغواء الشبكة العنكبوتية المفتوحة على المدى بكل أطيافه ومجالاته، ويعود الفضل في تلك العودة إلى إجراءات العزل الصحي التي منحتنا وقتا فائضا لإعادة برمجة سلوكياتنا اليومية، وفق رؤى جديدة، فوجدتني أعود لمتابعة مسلسلات تعرضها القنوات السورية ضمن برامج التشجيع على البقاء في البيت لتجنب انتشار عدوى الوباء المستجد، ومنها مسلسلات ومسرحيات نشاهدها للمرة الثالثة والرابعة، وربما أكثر من ذلك مثل مسلسلي ضيعة ضايعة والخربة، على سبيل المثال لا الحصر. هذان العملان اللذان تركا بصمة وعلامة فارقة في مسيرة الدراما السورية قد لاتتكرر في المدى القريب، كما هو الحال بالنسبة لمسرحيات نشاهدها للمرة العاشرة أو أكثر وما زلنا نضحك من أعماقنا عند كل حركة أو موقف وحوار كمسرحيات عادل إمام، وفؤاد المهندس، وأحمد بدير وسهير البابلي وغيرهم ممن قدموا أعمالا، صعب أن تعاد مرة أخرى، لدرجة بتنا نشعر معها أننا في كل مرة تفقد ظاهرة إبداعية يضيع الأمل بتعويضها.
هناك أشياء كثيرة تتبدل في حياتنا، على الصعيد الفكري، قد يكون للتطور المتسارع في التكنولوجيا الرقمية دورا حاسما في الحد من تحفيز الإنسان على توظيف كامل حواسه وملكاته لإنتاج حالات إنسانية وإبداعية مماثلة تخاطب الوجدان والمشاعر، لذلك نجد أن الأعمال الخالدة سواء في الأدب (رواية وشعر)، أو في الفن (دراما مسرحية وسينمائية وتلفزيونية)، من المحال مجاراتها.
لقد بدأ وهج الإبداع بالخفوت تدريجيا منذ بدايات القرن الحالي، مع كل خطوة تتقدمها تكنولوجيا المعرفة التي قامت بتحييد الإنسان شيئا فشيئا، على نحو باتت فيه تشغل كل تفاصيل حياته. وعلى ذلك لا أجدني متشائما إذا قلت إن الانحدار في مستوى التفكير الإنساني يتسارع على نحو مرعب ومؤلم، بحيث أصبح يحق لنا أن نخشى على حالنا وحال أبنائنا من قادم الأيام التي ستتجه نحو التسطيح للعواطف والفكر والإبداع، ويكفي أن نتأمل مايقدم لنا حاليا من فنون، ولأطفالنا من برامج ومسلسلات والعاب رقمية، تشوه كل جميل في إنسانيتنا، نتقبلها ونحن صامتين وعاجزين .
بدأنا بأفول نجم الفضاء المسرحي، ثم السينما التي تراجعت سوية الخلق والإنتاج فيها على مستوى العالم، كما بدأت تضيق مساحة الشعر والرواية في حياتنا، ولم يعد بمقدورنا فعل شيء أمام انتشار هذا الوباء الذي اسمه غزو تكنولوجي سوى التحصن بالأصالة، لاكتساب المناعة ضد التلاشي والتعقيم العاطفي المبرمج، ففي أيام قليلة انتقل فيروس قاتل من بلدة صينية صغيرة إلى كافة دول العالم دون أن يتمكن أحد من هذا العالم المشرع الأبواب من إيقافه، أو الحد من انتشاره المرعب، فكيف و الحال بات، مع “آفة” وسائل التواصل، من مدامة حياتنا نشربه ونستنشقه مع الهواء الذي نتنفسه ونحن ندرك أنه يسلبنا إنسانيتنا شيئا فشيئا ويحولنا إلى كائنات مستهلكة عاجزة عن تجديد الظواهر أو ابتكارها.
آصف إبراهيم