انهيار سعر النفط ورؤوس الأموال المضارِبة الكبرى التي تقامر باقتصادات الشعوب
د. إبراهيم علوش
ما انهار سعره مؤخراً إلى ما دون الصفر لم يكن كل برميل نفط يباع في العالم، إنما سعر برميل النفط للعقود المستقبلية على نوع محدد من النفط هو “متوسط غرب تكساس” WTI التي يفترض أن يتم تسلمها في شهر أيار المقبل، والتي تم إغلاق المتاجرة فيها أمس الثلاثاء. أما عقود شهر حزيران وما يليه من أشهر فلا تخضع لذلك السعر، ومع هذا، فقد كان ذلك مؤشراً على انهيار عامٍ في أسعار النفط.
ثمة بورصات عالمية لمثل تلك العقود المستقبلية Futures للنفط في نيويورك وشيكاغو وطوكيو، والعقد المستقبلي يكون عادةً بقيمة 1000 برميل نفط خام، فإذا تعاقدت مثلاً على شراء أو بيع 10000 برميل، بسعر 25 دولار أمريكي للبرميل الواحد، فإن عليك أن تشتري عشرة عقود، قيمتها الإجمالية 250 ألف دولار أمريكي. ولست ملزماً بدفع المبلغ كاملاً، بل عليك أن تدفع “هامشاً” أو عربوناً Initial margin، ربما يكون في مثل هذه الحالة 15 ألف دولار أمريكي من أصل الـ 250 ألفاً، ومن ثم تحاول بيع العقد قبل أن يحين موعده في الثلاثاء الثالث من الشهر بسعر أعلى من 25 دولار للبرميل، أما إذا انخفض سعر البرميل عن 25 دولار، إلى 23 دولار مثلاً للبرميل، فإن عليك أن تودع مالاً لدى تاجر العقود المستقبلية لتعويض الخسارة، وإن لم تفعل، قد يقوم ببيع عقدك في المزاد.
كثيرون ممن يشترون أو يبيعون العقود المستقبلية للنفط، لا ينوون ولا يقومون يوماً باستلام أو بيع السلعة التي تم بيعها أو شراؤها فعلياً، أي أنهم يتاجرون بالورق فحسب، وربما أنهم لم يروا برميل نفط خام في حياتهم كلها..
ثمة أنواع أخرى من العقود، مثل العقود الآجلة وعقود الخيار وغيرها، تسمى مجتمعة “المشتقات المالية”، على سلع كثيرة أخرى غير النفط.. إحدى أكبر أسواق العقود المستقبلية في العالم يقع في مدينة شيكاغو، وتسمى (Chicago Mercantile Exchange) “CME”، وتتم المتاجرة فيها بالعقود الآجلة والمستقبلية وغيرها في العملات الأجنبية والسندات الحكومية والأسهم والذهب والفضة والمعادن والذرة والقمح والماشية والنفط الخام ومشتقات الطاقة وغيرها كثير…
وثمة سوق عقود مستقبلية أخرى في نيويورك متخصصة في البن والكاكاو والسكر فحسب، وكلها تعمل بالطريقة ذاتها، والبعض يشتري ويبيع في مثل تلك الأسواق ليستلم أو يسلم فعلاً، ولكن كثيرين يبيعون أو يشترون بقصد المضاربة المالية، ولا يرون السلعة التي يبيعون أو يشترون عقودها في حياتهم.
المضاربة في المصطلح العربي العامي تعني الشريك الذي يدخل برأسماله فقط في مشروع تجاري أو إنتاجي، ليقوم آخر بإدارته، وليس هذا ما نتحدث عنه هنا طبعاً، بل عن مئات مليارات الدولارات التي تتحرك من سوق مستقبلي أو آجل إلى آخر لترفع أسعار العملات أو السلع الأساسية أو تخفضها في الأسواق المستقبلية بحثاً عن الربح، بحسب أهواء المضاربين وما يسفر عنه تنافسهم، من دون أن يكون هدف المضاربين بيع أو شراء السلع أو العملات أو الأسهم فعلاً، وقد تترك تلك العملية اقتصادات دول بأكملها في حالة دمار شامل أحياناً، ومثل هذا النوع من المضاربة المالية تقف خلفه صناديق استثمار عملاقة ورؤوس أموال ضخمة تبحث دوماً عن فرصٍ جديدة لتحقيق الربح من خلال تمرير الورق من دون أن تقوم بإنتاج أو بيع أو شراء أي شيء فعلياً.
في حالة سعر النفط الخام بالذات، فإن العوامل التي تتحكم فيه هي أربعة: 1) الطلب العالمي على المشتقات النفطية، 2) العرض العالمي، الذي يتحكم فيه منتجو النفط، 3) الطلب على تخزين الاحتياطي النفطي على سبيل الاحتياط، خوفاً من ارتفاع سعر النفط مثلاً أو حدوث حرب كبرى في منطقة نفطية، 4) المضاربة المالية في الأسواق النفطية.
الجميع يعلم أن الطلب العالمي على المشتقات النفطية انخفض كثيراً مع تباطؤ الاقتصاد العالمي بسبب أزمة كورونا، وأن العرض العالمي تزايد بسبب ضخ النفط في الأسواق من قبل السعودية وروسيا، وأن مواقع تخزين النفط في العالم تكاد تمتلئ، وهذه كلها اسمها “أساسيات السوق” market fundamentals، أي العوامل الملموسة التي تؤثر في العرض والطلب.
أما ما يتوجب لفت النظر إليه لأنه لا ينال حظه من الاهتمام فهو تأثير أسواق المشتقات المالية على سعر النفط، أي بيع وشراء براميل النفط والمشتقات النفطية في أسواق مستقبلية، من دون أن يستلم المشتري أو يسلم البائع قطرة نفط واحدة في معظم الأوقات، بل يتم “تقطيع كوبونات”، بحسب تعبير لينين في “الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية”، لبيع وشراء عقود النفط فحسب.
لكن لننتبه أن تلك الأسواق هي أسواق النفط (وغيره) التي يتم تحديد السعر فيها فعلياً، وأن المنتجين الفعليين للنفط، من السعودية إلى روسيا إلى الولايات المتحدة إلى غيرها، لا يؤثرون مجتمعين على سعر النفط إلا جزئياً من خلال بوابة أحد العوامل الأربعة التي تؤثر فيه، وهي كمية العرض العالمي النفطي…
لنلاحظ في الرسم المرافق كيف ارتفع سعر برميل النفط بشكلٍ جنوني إلى ما فوق الـ150$ دولاراً أمريكياً للبرميل عام 2008، ثم عاد للانهيار إلى ما دون الـ50$ دولاراً أمريكياً خلال الأزمة المالية الدولية.
كيف حدث ذلك؟
ارتفعت رؤوس الأموال المضارِبة في أسواق العقود المستقبلية للنفط من 13$ مليار دولار عام 2004 إلى 260$ مليار دولار في شهر آذار/ مارس 2008، أي ارتفعت المتاجرة بالنفط على الورق 20 ضعفاً، لكن كمية النفط الفعلية التي تم بيعها وشراؤها واستهلاكها في العالم لم ترتفع 20 ضعفاً، بل انخفضت فعلياً مع ارتفاع أسعار النفط، لكن ذلك لا يهم البتة، لأن “الفقاعة السعرية” التي نشأت في أسواق المستقبليات النفطية كان المضاربون يجنون من ورائها أرباحاً بالمليارات، وعندما انفجرت الفقاعة، انهار السعر، وربح من باع عقوده المستقبلية أولاً، ولا يهم ماذا يحدث للشعوب والبلدان واقتصاداتها بعد ذلك… ذلك هو منطق الرأسمالية المضارِبة: تحويل العالم برمته إلى كازينو.. وما ينطبق على النفط ينطبق على غيره.. وهي ليست رأسمالية منتجة بأي شكل، بل طفيلية، وهي التي تحكم العالم اليوم تحت عنوان رأس المال المالي الدولي International Financial Capital.
بناءً عليه، فإن سعر 37$ ونيف تحت الصفر لبرميل نفط متوسط غرب تكساس لا يعني أن المنتجين سوف يدفعون.. بل هو سعر افتراضي على الشاشة ومستقبلي، يرسل رسالة مفادها: إن أراد منتِج برميل نفط متوسط غرب تكساس بيع ذلك البرميل، فإن عليه أن يدفع للمشترى 37$ دولاراً ونيف على كل برميل… وهو مثال آخر على لاعقلانية الأسواق المستقبلية ولاعقلانية صالة القمار الكبرى المسماة “اقتصاداً عالمياً” التي يديرها رأس المال المالي الدولي.
للمشاركة على فيسبوك:
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=3566560463361163&set=a.306925965991312&type=3&theater