الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

زمـــــــان كريــــــم

د. نضال الصالح

رمَاني، فسقطتُ، كما حدّثَ ابنُ حزمٍ في باب مَن أحبَّ مِن نظرة واحدة، صريعَ فتنتها السحْر، حتى صرتُ حالَ ابنِ هارون الشاعر إذْ رأى، وهو يجتاز بابَ العطّارين في قرطبة، امرأة أخذتْ بمجامع قلبه، وتخلّلَ حبُّها جميع أعضائه، فصار يتبعها، حتى أخبرها بعظيم دهشته بها، بعينيها الذبّاحتين رغم الخِمار الذي كانَ يشفّ عن حنطة عربية استثناء.

البائع ينادي: “وقعتْ ولّا رماك الهوى يا ناعم؟”، وأنا أردّ من دون أن أقدّر أنني في شارع مزدحم بالناس، أو أنتبه إلى نفسي نفسها: “بلْ رمَاني، رمتني هذه الشام، حتى أخذت بمجامع قلبي، فصرتُ أحجّ، كلّ يوم، إلى ما تبقّى من أبوابها، وإلى أحيائها القديمة، وأخبرها بعظيم دهشتي بها، وبأنّ في قلبي منها، مثلما لحلب، أحرّ من الجمر كما كان ابنُ هارون قال”، ثمّ ما إنْ سألتُ البائع عن ثمن الرغيف الكبير الذي كان يرقّ فيكاد يُرى ما وراءه، حتى عاجلني بالسؤال كأنّ حروف حلب كانت تتثنّى كراقصات السماح على شفتيّ، فتجهر بي: “من وين الأستاذ؟”، وحتى أردتني التأتأة في قاع صمت سحيق، فحرْتُ بالإجابة: من أيّهما أنا؟ حلبُ أم دمشق؟. حلبُ، حاءُ الحبّ، ولامُ اللهفة، وباء البسملة. حلبُ رمضانُ قبلَ السنوات التسع التي مضتْ، حلبُ الطفولةُ البعيدةُ، حيّ باب المقام، مصباحُ مئذنة جامع القلعة، ومدفع الإفطار، وحبّات التمر، وماء عرْق السوس، ومنقوع قمر الدين والتمر هنديّ، ثمّ الأكفّ الضارعة إلى السماء، وبصوت واحد: “اللهمّ لكَ صمتُ، وعلى رزقكَ أفطرتُ، ذهبَ الظمأ وابتلّتِ العروقُ، وثبُتَ الأجرُ إنْ شاء الله”.

رمضانُ الذي ظلّ رمضانَ حتى دهمَ الظلامُ حلبَ من غير جهةٍ من ظلمات الأرض، حتى ذلك الرابع من رمضان، حيثُ أوّلُ الرمَض، وقْعُ اللظى على المدينة التي قيل إنّها سُمّيت حلب الشهباء نسبة إلى خليل الرحمن إبراهيم الذي كانت له بقرةٌ شهباءُ اللون، وكان كلّما حلبها ليوزّع حليبها على الفقراء بلغَ صوتُها آخر المدينة، فيتنادى الناس: “حلبَ إبراهيمُ الشهباءَ.”

أمسكُ دمعاً يختلجُ في الروح. يرعدُ القلبُ بالحنين إلى حلب التي كانت، حلب التي كنتُ غادرتُها إلى هذه الشام التي تشبه “الناعم” بين يديّ. أدفعُ بالورقة النقدية إلى الرجل، بالقيمة نفسها كما رأيتُ غيري يفعلُ، فيردّها إليّ، ويُقسم أن أقبلَ الرغيف من دون ثمن، وأقسمُ أن يأخذ الورقة، فيقولُ وفي عينيه تضيء أشجارٌ من الياسمين الدمشقيّ: “رمضان كريم”، ثمّ يتابع بلهجة الشام السحْر: “أخي، وكّلْ الله، ما في شي من واجب حلب”.

أحضنُ الرغيفَ بملء كفّيّ.. أستعيدُ البلادَ التي كانتْ، الزمانَ الذي كانَ، رمضانَ الذي كان، حلبَ التي كانت، أمّي التي لم يكن يهنأ لها بالٌ قبل أن تطمئن إلى أنني تناولت ما يكفي من الطعام على السحور، قبرها الذي لم أزر منذ سنوات، ثمّ، وروحي تجهشُ بالحنين إلى البلاد التي كانت، الزمان الذي كان.. يردّدُ الرجلُ من جديد: “رمضان كريم”، فأردّدُ له، لي، للبلاد التي كانت، البلاد التي ستكون: “زمان كريم”.