رؤى.. بدايات حركة الحداثة في الشعر العربي
محمد راتب الحلاق
إذا استثنينا بعض الإرهاصات، فإن حركة الحداثة في الشعر العربي قد بدأت بصورة متزامنة تقريباً مع نشوء الدولة العربية القطرية المستقلة، لذلك نجد الموضوعات المتعلقة بالحرية والعدالة والاستقلال ومواجهة الصهيونية هي الغالبة في نصوص تلك الحقبة، ما دفع بعضهم إلى الربط بين حركة الشعر الحديث والحركات والأحزاب التي كانت تصف نفسها بالتقدمية، بل ثمة من تطرف ووصف المناوئين لحركة الحداثة الشعرية العربية بأنهم من فلول الرجعية، الأمر الذي استدعى ردود فعل من العيار ذاته، حين تم اتهام الشعر الحديث بأنه وليد مؤامرة خبيثة هدفها تقويض فن الفنون عند العرب خدمة للمشاريع الاستعمارية والصهيونية. وهكذا تم استدعاء ما هو سياسي لنصرة ما هو فني وأدبي.
والحقيقة أن الفريقين لم يكونا على حق، وإنما كانا يتساجلان أيديولوجياً، ويحكمان على الشعر بمعايير قادمة من خارجه، والمفارقة أن مضامين الشعر كانت واحدة عند الفريقين، أما الأشكال فهي المختلفة؟!.
ثم إن حركة الحداثة الشعرية العربية كانت استجابة لما يجري في سياق التاريخ، وهذا شأن الفنون والصناعات عامة، وقد انتبه النقاد العرب القدماء إلى هذه الحقيقة منذ القرن الهجري الثالث، حين قال قائلهم عن شعر المولدين: “وهذا الشعر أليق بالزمن”.
ويعبر الشعر، عن تفاعله مع محيطه، بأشكال تقليدية أو بأشكال حديثة وطريفة، فالربط بين المضامين والأشكال لم يكن منطقياً ولا مقنعاً، والشعر الأصيل يعيد صياغة الأشياء المألوفة بشكل طريف غير مألوف من خلال الكشف عن الصخب والشك والفوضى في هذا الذي يبدو وكأنه هادئ ويقيني ومنتظم، فأصالة الشعر لا تتحقق من خلال الشكل وحده، ولا تتحقق من خلال المضامين وحدها، وإنما تتحقق من خلال قوانين الشعر وطبيعته، والمتلقي الذي يقدم مضمون الشعر على شكله، لا يفهم طبيعة الشعر، والمتلقي الذي يحصر اهتمامه بالشكل وحده لا يفهم حقيقة الشاعر غير المعزول عن قضايا البيئة التي يعيش فيها.
قلت ما قلت، وأنا أعلم أن الشكل هو الأهم في الشعر (وفي الفنون عامة)، وأن الشعر ليس من شأنه أن يتوقف عند العابر والآني، فهو يتعالى عن اليومي والزائل ليستشرف الممكن.
وإذا كانت حركة الحداثة الشعرية العربية قد واجهت في البداية مقاومة عاتية فلأن الذائقة العربية قد ألفت ضوابط الشعر العربي ولم تكن مستعدة للتخلي عنها بالسهولة التي تصورها رواد الحداثة، ولاسيما تحويل الشعر من فن مسموع يخاطب الآذان بالدرجة الأولى، عبر الإنشاد المنبري، إلى فن مقروء يخاطب العيون. ولأن الذائقة لم تكن مستعدة للتخلي عن القافية التي كانت تستريح عندها الآذان، ولأن الذائقة لم تكن قد ألفت بعد تقنية توزيع النص على بياض الصفحة بطريقة خاصة يختارها الشاعر لأسباب جمالية تريح العين.. كل هذا لم يكن من الأمور السهلة كما نتصور. ولا أنسى أن أذكر أن حركة الحداثة الشعرية العربية لم تلغ الوزن وإنما تلاعبت ببحور الخليل دون أن تخرج عليها، وأستثني ما يسمى بقصيدة النثر فهي جنس (أدبي/ شعري) جديد وليس تطويراً لمفهوم الشعر العربي من داخله.
بقي أن أقول إن حركة الشعر العربي الحديث قد واجهت مقاومة لم تواجهها الفنون والآداب الحديثة الأخرى (الرواية وسائر الأجناس النثرية الأخرى، المسرح، السينما، الفنون التشكيلية)، لأن تلك الفنون كانت تنسج لا على مثال سابق في الذاكرة العربية كما كان الأمر بالنسبة للشعر.