إلى “غابو”.. هذه الشكوى!!
“لقد ظننتُ على الدوام، خلافا لوجهات نظر أخرى محترمة جدا، أننا نحن الكُتّاب لم نوجد في الدنيا من أجل أن نُتوج، وكثير منكم يعرف أن أي تكريم عام هو بداية تحنيط. لقد ظننت على الدوام باختصار أننا نحن الكُتاب، لسنا كُتابا بفعل مزايانا الخاصة، وإنما بفعل نكبة أننا لا نستطيع أن نكون شيئا آخر، وإن عملنا المتوحد يجب ألا يستحق مكافأة أو امتيازا أكبر من ذاك الذي يستحقه الحذّاء على صنع حذائه”. قائل هذا الكلام هو غابرييل غارسيا ماركيز (1927 – 2014) أحد أهم من كتب الرواية في التاريخ، والذي حلت ذكرى وفاته منذ بضعة أيام، فمرت بصمت عالمي لا سابق له، بعد أن صار الخوف هو نجم هذه الأيام بلا منازع.
“غابو” من نسج “مئة عام من العزلة” خلال فترة زمنية بدت بلا نهاية، حتى قال بسببها: “إن تأليف الكتب مهمة انتحارية”، كتبها بصمت ودون أي ضجيج، لتصبح واحدة من أهم الأعمال الأدبية في التاريخ، والتي ستبقى وبقية نتاجه الأدبي إرثا فكريا وفنيا وإنسانيا خالدا، خصبة ومتجددة مع كل مرة تُقرأ فيها، عابرة للتواريخ والجغرافيات والسياسات.. أنفق أعواما في كتابة الرواية والعناية الدقيقة بكل حرف وكلمة وتشبيه، لم يقم مهرجانا مبهرجا لإطلاقها، ولم يستأجر صغار “النقاد” لتدبيج المطولات عنها، في حين نرى البعض من مراهقي الكتابة، وقد كتب روايته الميتة سلفاً أو سلقها في أسبوع أو خلال شهر.. هكذا “من قفا اليد” كما يقال، لمغازلة جائزة من هنا أو مكافأة من هناك، “رواية” مع التحفظ على التسمية، يُقال بعد قراءتها، وقد نُشرت وقضي الأمر: هل أصبحت دور النشر على هذه الدرجة من الرداءة حتى تقوم بإصدار “مسوخ” كالتي تصدرها الآن عابرو حروف يسلقون رواية يُصدّعون الرؤوس بها في ذاك المنبر أو غيره من منابر السوشيال ميديا العتيدة؟ بل وحتى قبل أن يكتبوها أو ينشروها، طالبين إلينا أن نصفق للضحالة وأن نرفع أنخاب السطحية، وأن نتغاضى كرمى سواد عيونهم عما يلي: حبكة ملطوشة من هنا، شخصية “مستعارة” من هناك، أسلوب مُعفى حتى من صفة الركاكة إذ لا صفة تناسبه، صفحات متعاقبة بلا معنى، باردة لا روح فيها، تم طرشها بمساحيق التجميل اللغوية، مختزلة بلا سبب، محدودة في أفكارها وما تطرح – في حال طرحت شيئاً – وكأن من “طرشها” كان على فوهة بركان لا على قلق يا “أبا الطيب”، فالقلق له أن يُنتج أدبا في حال كان أصيلا لا مفتعلا؛ ولنا أن نتخيل بعضهم في ركن مقهى ما، يُعملون تفكيرهم في كيفية كتابة أسوأ رواية، سَيُضرب بها المثل باعتبارها قد تصبح الحدّ الفاصل ما بين الرواية الجيدة والرواية الهابطة، بحيث يُقال: هذه “الرواية” أفضل من رواية “علتان” أو أسوأ من رواية فلان، وهذا واقع جدا أيها السادة وليس من شطحات الخيال من أسف.
ماركيز الروائي الأهم في القرن العشرين، وجد أنه لا يستحق الشكر أو التكريم إلا كما يستحقه الحذّاء، بينما البعض من “جهابذة” هذا العصر، يطقطقون الصور هنا وهناك، وينثرون الأخبار الملفقة عن عظيم إبداعهم على صفحاتهم الزرقاء وفي المواقع التي لا تحضر فيها المهنية إلا كما يحضر المصحف في بيت زنديق، ليغطي كما يظن بالضجيج الإعلامي على رداءة منتجه، كيف لا ومحافل الجهل تحتفي بهم وتقوم بالتسويق لهم، بذات الطريقة التي تم التسويق بها لـ “هيفا” وأخواتها! أحدهم كتب مطولة يتوله فيها بإحدى الروايات إياها، وعند سؤاله إن كان قد قرأها، أجاب بلا حياء أنه لم يفعل!!
ها هم الآن يا “غابو” بدأوا بـ “اجتراح” روايات جديدة، متوعدين القراء بمسوخ أدبية فائضة عن كل حاجة، ومنهم من سينهي “تحفته” قبل أن يخمد جمر “نرجيلته” حيث يتكئ في ركن مقهى ما على هذا الرصيف أو في تلك الحانة “عاطل عن الوردة”، يتصيد النميمة على أنها حوارات عالية الخيال والخبال، وما على القارئ المنشود إلا انتظار البشاعة الموعودة وليس القبح حتى، فالقبح له ميزات جمالية أيضا كما يُخبرنا بودلير، وقبله فعل ابن الرومي في هجائيته الشهيرة “ثنى شوقه”، أما البشاعة فلا شفاعة لها ولو رُسمت بماء الورد والذهب.
هل أوجعت رأسك النبيل بما ذكرت يا غابو؟ لك أن تحتملني وإلا فمن سيفعل؟ نم بسلام يا ماركيز، مثلك لا يموت، مهما أنجبت البشاعة من شذاذ الحروف المختلين ومن صبيان الكتبة، الذين يعتقدون أنهم يقدرون بالجعجعة أن يُطفئوا عين الأصالة في الإبداع، وبالعلاقات العامة أن يكمموا ينابيع الحقيقة ويخرسوا عنادل النُبل.
تمّام علي بركات