دراساتصحيفة البعث

اختيار معركة في الوقت الخطأ..

إعداد: عائدة أسعد

القرار الذي اتخذه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بقطع التمويل الأمريكي عن منظمة الصحة العالمية للمنظمة قرار صعب وغير مناسب حالياً. وهذه الخطوة تقوض المنظمة أثناء محاولتها للاستجابة لأسوأ جائحة منذ أكثر من قرن، وهي تشبه إلغاء تمويل قسم الإطفاء وسط نشوب حريق كبير، كما أن هذا القرار سيزيد من تهميش الولايات المتحدة داخل المنظمة ويقوض قدرة واشنطن على إصلاح مؤسسة حيوية.

تأسست منظمة الصحة العالمية عام 1948وتتمثل مهمتها في تعزيز الصحة والحفاظ على سلامة العالم وخدمة الضعفاء، وخلال 70 عاماً حققت نجاحات رائعة، ويعود الفضل لها في القضاء على الجدري الذي أودى بحياة ما يقدر بنحو 300 مليون شخص في القرن العشرين، كما قضت على شلل الأطفال، ومرض هانسن، وعمى النهر، وساهمت في تطوير لقاح الإيبولا. وتعتبر منظمة الصحة العالمية شريان الحياة الطبي بالنسبة للعديد من المواطنين الأكثر فقراً وضعفاً في العالم، وها هي الولايات المتحدة تقرر قطع التمويل عن هذا الدعم.

إن سجل المنظمة لا يخلو من العيوب فقد كانت بطيئةً في الاستجابة لتفشي فيروس H1N1 في عام 2009، الامر الذي أثار الجدل حول ما إذا كانت قد بالغت في تقدير تأثير المرض عندما تم الإعلان عن الوباء بعد أكثر من عام.

كما تعرضت منظمة الصحة العالمية لانتقادات شديدة بسبب سوء التعامل مع تفشي فيروس إيبولا 2014 في غرب أفريقيا، وبعد فحص استجابة المنظمة لتفشي فيروس أودى بحياة أكثر من 11000 شخص في ثلاث دول حددت لجنة خبراء مستقلة الإخفاقات الشاملة في كل مرحلة من مراحل الاستجابة التي أدت إلى معاناة وموت لا داعي لهما وإلى خراب اجتماعي واقتصادي وفقدان الثقة في المؤسسات الوطنية والعالمية. وبناءً على هذه المعطيات، خلص تقرير أمريكي مؤخراً إلى أن منظمة الصحة العالمية غير قادرة على الوفاء بمسؤوليتها والاستجابة لهذه الحالات وتنبيه المجتمع العالمي.

اتهم ترامب منظمة الصحة العالمية بسوء الإدارة والتغطية الشديدة لتفشي كوفيد 19، وأصر على أنها لم تحصل على المعلومات حول المرض، وأنها تعتمد بشكل مفرط على الصين، وأنها فشلت في مساءلة حكومة بكين عن طريقة تعاملها مع تفشي المرض واتهم المسؤولون الأمريكيون المنظمة بأنها سخرت مراراً من ادعاءات الحكومة الصينية أنه لا ينتشر بين الناس على الرغم من التحذيرات من حدوثها، وقال ترامب في تغريدة أن هذا دليل على أن منظمة الصحة العالمية تتمحور حول الصين وأنه يجب تعليق تمويلها والتدقيق فيه.

في وقت سابق كان ترامب يثق بالحكومة الصينية مثل منظمة الصحة العالمية، وأشاد مراراً بعلاقته بالزعيم الصيني شي جين بينغ وبمعاملة الصين لتفشي الوباء، وقلل من شأن أي خطر قد يشكله للولايات المتحدة، وقال في كانون الثاني أنه يعتقد أن الصين كانت شفافة بشأن الأزمة.

إن تطور تفكير ترامب وإصراره المستمر على أن التعاون مع الصين يعتمد على الاتفاقية التجارية المبرمة معها في كانون الثاني الماضي يؤكد أن دافعه الحقيقي هو وظيفة سياسية أكثر من كونها مخاوف صحية، كما يتماشى انتقاده للصين مع ادعاءاته بأنه لا يتحمل أي مسؤولية عن أي فشل في التعامل مع الأزمة وأنه يبحث عن كبش فداء للوم، وهو في وقت سابق من هذا الشهر اتهم منظمة الصحة العالمية بأنها لم تقدم تفسيراً جاداً يعترف بأخطائها الكثيرة.

إن منظمة الصحة العالمية مثل كل وكالة دولية أخرى إناء فارغ تعتمد بنجاحاتها على دعم أعضائها ولا يمكنها أن تجبر الدول على قبول فريقها أو مشاركة معلوماتها والتقارير التي تفيد بأنه تم دمج خبراء أميركيين في مكاتب منظمة الصحة العالمية منذ كانون الثاني ونقل المعلومات إلى الولايات المتحدة في الوقت الحقيقي يقلل من التأكيد على أن منظمة الصحة العالمية كانت تتستر على السلوك الصيني، ومن المرجح أن المنظمة نفسها كانت في ظلام تام.

في 2018- 2019 بلغت ميزانية المنظمة حوالي 5.6 مليارات دولار، وكانت الولايات المتحدة أكبر مانح حتى الآن، حيث ساهمت بحوالي 900 مليون دولار بينما كانت اليابان سادس أكبر جهة مانحة وقدمت 214 مليون دولار وساهمت الصين بحوالي 86 مليون دولار، وإن تعليق مساهمة الولايات المتحدة في منظمة الصحة العالمية لا شك أنه سيقوض عملها، الأمر الذي دفع مؤسسة “غيتس” لصاحبها بيل غيتس التي قدمت أكثر من 530 مليون دولار للمنظمة، لإدانة وقف تمويل المنظمة خلال أزمة صحية عالمية بالقول: “أنه أمر خطير مع بدء المرض في البلدان الأكثر ضعفاً ذات البنية التحتية الصحية الأقل تطوراً، وأن العالم بحاجة إلى منظمة الصحة العالمية الآن أكثر من أي وقت مضى”.

كما اعترف رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي بأن المنظمة تواجه تحديات ويجب التريث بإعادة التقييم حتى بعد احتواء تفشي الفيروس المستجد، وهذا هو القرار الصحيح، وقرار الولايات المتحدة يقلل من قدرتها على تحقيق الإصلاحات اللازمة داخل المنظمة. وعليه من المرجح أن تتقدم اليابان لملء فراغ القيادة الناجم عن انسحاب الولايات المتحدة من المنظمة، ويمكن أن تفعل ذلك بالتنسيق مع الممولين اليابانيين الآخرين، مثل مؤسسة “نيبون” التي كان لها دور فعال في دعم عمل منظمة الصحة العالمية في جميع أنحاء العالم.