الفن التشكيلي في حمص.. الخصوصية والريادة!!
يعد المنتج التشكيلي لفناني حمص حجر الزاوية في التشكيل السوري بما يتميز من تنوع وجدية تكسبه صفة الحضور القوي الذي لا يقارن مع منتج بقية المحافظات على المستوى العام، وبما يتميّز به من روح الفريق الفني، فهو غني بأسماء كبيرة أسست في فترة الرواد من التشكيل السوري وأضافت إلى تيار الحداثة في فترة الستينيات وواكبت حتى الآن وأضافت لعموم الحياة التشكيلية والفنية. ومن الحق أن نستحضر بعض هذه الأسماء بالتقدير بدءاً من مؤسس الحركة التشكيلية في المحافظة الرائد الراحل صبحي شعيب (مواليد 1909) الذي أتاحت له فرصة دراسته في دار المعلمين بدمشق اللقاء مع توفيق طارق ليدرس في مرسمه، ومن ثم التعرف على ميشيل كرشة الذي أخذ عنه الكثير ورسم متأثراً فيه قبل أن يتجه إلى أسلوبه الخاص به لاحقاً، فقد لعب دوراً في تنشئة جيل من الفنانين الحماصنة أثناء عمله مدرساً، وأسهم في تطوير قبول الناس للفن، وقد عبرت أعماله عن صيغة واقعية لها خصوصيتها ضمن تجارب الرواد لربطها بموضوعات اجتماعية وسياسية في فترة الاستقلال ووصلت إلى حدود الرسم الكاريكاتوري والتحويري لتعزيز مضمون العمل، إذ عمد إلى تضخيم اليدين والمبالغة في الواقعية والمحاكاة التامة للشكل الخارجي من لوحاته المعروفة (العميان الثلاثة – العودة إلى القرية – شارب النارجيلة – سهرة في المقهى) كما رسم الطبيعة بنكهة خاصة تقارب أعمال الفنان الإنكليزي تورنر، وتتميز أعماله بالإشراق اللوني والعناية بالضوء.
– عبد الظاهر مراد (1926)، وله أعمال عديدة رسم المدينة بألوان مبهجة يميل للانطباعية ويعتني بالسطوح، ذو حساسية تحليلية، حصل على إجازة من روما في الديكور.
– أحمد دراق السباعي (1935)، وهو مصور حاذق تتسم أعماله بالتبسيط والاختزال يقترب من التكعيبية في معالجة السطح واللون والشكل له دور كبير في إرساء دعائم الحركة التشكيلية في حمص (دولاب الهواء – الصعود والنزول – المناظر الطبيعية)، وجد في رسوم الأطفال مصدراً هاماً من مصادر الفن التشكيلي المعاصر آنذاك، تناول الموضوعات السياسية بلغة فنية تتجاهل القواعد التقليدية للواقعية وبتحليل الأشكال لتصبح أقرب إلى التجريد، فيما يمتلك القدرة على الوصول إلى المضمون الاجتماعي معتمداً على رمز مبسط وجريء محققاً مفاجأة للمشاهد من خلال خطوط بسيطة وألوان محددة أو لون واحد أحياناً.
– مصطفى بستنجي (1931)، وتتصف أعماله بالتدفق والانفعال والهواجس، ويعتبر إلى جانب أحمد دراق السباعي من أهم مفاصل الحداثة في التشكيل الحمصي ومن أهم التجريديين السوريين، فقد ذهب إلى عوالم سوريالية عميقة خاصة به، ويتمتع بثقافة فنية وفلسفية كبيرة فقد درس في أكاديمية الفنون الجميلة في إيطاليا، سنة 1959، وبعد خمس سنوات عمل في هولندا وتتلمذ على أيدي عدد من التجريديين هناك، له خبرة كبيرة في الترميم، يمتلك رؤية فنية تدعو إلى “أنسنة المادة” من خلال الفن، له شخصية تجمع بين الذكاء والوفاء: الفن كالذكاء والذاكرة والإرادة مرتبط بالدماغ ومستقل بنوعيته، أما وظيفته فهي تنمية الإدراك الحسي لدى الناس وتحريض الحس الإبداعي والأحاسيس الإيجابية والمشاعر التي تكبو تحت وطأة الحياة، والفن يعمل ببطء كالتربية لا تدرك نتائجه إلا على المدى البعيد. أثناء عمله في شركة إيطالية للترميم في 1966 قام بالكشف عن لوحة فريسك في كنيسة كانت قد طليت بالكلس قبل 200 عام بسب انتشار الطاعون، كما قام بترميم الرسوم الجدارية في كنيسة تورنا بوري.
– غياث الأخرس (1931)، درس في باريس وتعود له الريادة في إدخال فن الحفر في التشكيل السوري وتعريف جيل الفنانين الجدد عليه من خلال تدريسه هذا الاختصاص في كلية الفنون الجميلة وتجربته الغرافيكية الواسعة في هذا المجال وبحثه في ميدان التجريد والزخارف، ومثله الفنان غسان السباعي أيضاً الذي درس فن التصوير في مصر ومن ثم أوفد إلى باريس للتخصص في فن الحفر ومن ثم أستاذا للمادة في جامعة دمشق، تعتمد لوحته الإنسان باعتباره العنصر الأساسي فيها ويقدمه في موقف مأساوي مركزاً على الأشياء التي تحيط به وصولاً إلى أعمق الأفكار حول غربة الإنسان واستلابه عن طريق أبسط الأشكال الفنية وأكثرها ألفة، كما تحفل اللوحة بالرموز والكتل المعمارية ويستخدم القطوع الهندسية في عمارة الجسد ودمج أكثر من صيغة خدمة للتعبير التراجيدي الكامن فيه من أعماله: (بناة المستقبل – الأطفال المعلبون).
ومن هذا الجيل نذكر الفنانين: فيصل عجمي – عبد المنان شما – محمد حسام الدين – لبيب رسلان – رضا حسحس – وليد الشامي – جورج ماهر – كرم معتوق – عبد الله مراد – فريد جرجس – عون الدروبي – غسان نعنع – محمود شيخاني – مصطفى يحيى – وبسام جبيلي، وآخرين.
من المؤكد أن لازدهار الحركة التشكيلية في هذه المدينة عوامل كثيرة، لعل من أهمها وفرة الحياة الثقافية والأدبية وتقارب أولئك المبدعين فيما بينهم، فقد كتب الشاعر شاكر مطلق عن الفنان بسام جبيلي: “رصدت عنده نزوعاً نحو نضوج متصاعد يعطينا باستمرار مزيداً من الدهشة والتجاوز لما سبقه مطعماً بتقنيات وأساليب جديدة، إنه يرسم الحوار بين وجه المجدلية بنفس العمق والحب إلى الإتقان المتوازن شكلاً ولوناً، يرسم سطوح حمص القديمة كفناني الأيقونات القديمة الذين تحدث عنهم مكسيم غوركي “الذين يرسمون على ضفاف الفولغا”، يرسمون المقدس بريشة الخطيئة التي لا نراها إلا وهجاً لونياً متألقاً على أفق عالم علوي متعالٍ، دون أن ندري عن عالمهم السفلي خلف الكواليس إلا القليل.. هذا الفنان قدم لنا “التشويه الجمالي للكائن البشري” من خلال انزياحات مدهشة في المنظور والأبعاد المعروفة في تشريح الجسد، هو الشغوف بالموسيقا وبحق وحرية الكائن أن يكون مايشاء”.
بما سبق، لم نغط مساحة الواقع التشكيلي في حمص بالشكل الكافي بل أوجزنا في الإضاءة على أهم مفاصلها من جيل الرواد إلى جيل الحداثة الفنية، وإن كان لابد من ذلك سوف نحتاج إلى مساحة أوسع في الدراسة والبحث في أرشيف فنانيها ومراسمهم، وخاصة الذين لا يزالون يمارسون يوميات الإبداع والعطاء وهم كثر كما لا نغفل التنويه بحركة تشكيلية شابة رافدة وأصيلة للتشكيل السوري ولها حضورها في مجالات النحت والتصوير مثل إياد بلال الذي نفذ عدداً من النصب النحتية في أكثر من محافظة سورية، والمصورين علي سليمان وأحمد الصوفي وعيسى زيدان وإميل فرحة وغيرهم.
أكسم طلاع