يوميات أدباء الغرب!
حسن حميد
أعرف، وتعرفون أيها الكرام، أن مرحلة الانتداب الاستعمارية التي خططت لها ونفذتها الهيمنة الغربية لأسباب كثيرة، حطّت من قدر بلادنا جغرافياً، وبشرياً، وقيماً، وثروات في رأسها الثروة الحضارية المتمثلة في العلوم والكتب والإبداع والفنون. فقد أخذ الغرب كل ما هو نبيل، ونام، وموح، ودال من حضارتنا وبنى عليه حتى صار كأنه توليده أو ابتكاره، هكذا أخذوا علوم البصري، وابن رشد، وابن خلدون وبنوا عليها وطوّروها حتى صار ذكر أسماء هؤلاء النجباء ظلالاً محتها الغطرسة الغربية؛ ولم يعد لنا، وقد تشاركت جهات غربية عدة في التقليل من شأن بلادنا العربية، منها مراكز البحث والجامعات، وما عاد من منصف يقول كلمة عن الإبداع العربي، أو يبدي عطاءات حضارتنا، أو يقف عند شغف العرب في الابتكار والافتراع والمضايفة سوى كتابات أنفار من أهل الغرب والشرق الذين وضعوا كتاباً يصف الرحلات التي قاموا بها إلى بلادنا، وفي قلب هذه الزيارات، تقع بلاد الشام والعراق ومصر، وهذه الكتب التي سميت بالسيرة الذاتية مرةً، وبأدب الرحلات مرةً، وباليوميات مرةً ثالثة، تتحدث بوضوح شديد عن الجغرافية العربية وما حباها الله من عناصر التكوين من ماء، وضوء، وهواء، وتراب، وما يجتمع عليه تضافرها من ازدهار حضاري، أو قل تلاقي الناس وتفاعلهم عقولاً وتجارباً وإبداعاً وشوقاً للتطاول ومحو ما تبقى من بقع الظلام والأذيات التي لا تحتفي بمعاني النبل، والمساواة والحرية.
كتب رحلات، وسير ذاتية، ويوميات، ومذكرات وضعها بعض أبناء الغرب عن بلادنا، وعديدها كثير، وفيها حقائق مهمة عن بلادنا، واعترافات سارّة بمنجزات العقل العربي، وانحناءة صادقة أمام وجوه عدة من وجوه العمران العربي وعلى صعد ومستويات عدة، وهنا أخصّ الأدباء والشعراء من أهل الغرب الذين كتبوا ما شاهدوه، وما وعوه، وما قرَّ في عقولهم، وقد جاؤوا إلى بلادنا بقلوب صافية لا ضغائن فيها، وبعقول خالية من التقولات، وبصدور لا أنفاس حامضية فيها، وهنا أخص مذكرات لامارتين الشاعر الفرنسي ويومياته التي تحدث فيها عن لبنان وسورية وفلسطين، والأمكنة التي زارها، والناس الذين التقاهم، وحالات العمران التي شاهدها مثل الزراعة والصناعة وحركة المرافئ العربية المحتشدة بالحيوية والحياة، وقد جاء إلى بلادنا، أعني بلاد الشام ومصر، عبر سفينة جهّزها بكل المستلزمات، كيما يمضي في بلادنا شهوراً عدة. في هذه اليوميات تتجلى كتابات الشاعر العاشق لبلادنا بدءاً من الأعشاب والأزهار إلى القلاع والأنهار والغدران والبحيرات إلى عقول الناس ونفوسهم العلوق بالمسرات، إلى وصف حالات الظلم التي وقعت عليهم بسبب الهيمنة العثماني. ومن تلك اليوميات الحارة أيضاً ما كتبه أديب روسيا نيقولاي غوغول الذي كتب قصيدة عشق لبلاد الشام وهو يتنقل فيها من ميناء إلى آخر، ومن مدينة إلى أخرى، والأيام المدهشة التي عاشها في القدس، والناصرة، وطبريا.. وقرى الجولان التي هي أشبه بالشرفات المطلة على نهر الأردن، ومنها أيضاً يوميات كاتب روسيا، الحائز على جائزة نوبل، إيفان بونين وما جاء طيها من قصص رائقات مثل الينابيع.
بلى هذه اليوميات والمذكرات مهمة لأنها تنصف بلادنا، ولكنها في الآن نفسه هي كتابات ترد تلك الكتابات ذات الأنفاس الحامضية على أعقابها لأن ما من هدف كان لها سوى التشويه من جهة، وسوى أن تكون دليلاً لمرحلة الانتداب الاستعماري الغربي التي سلّمت قادته معلومات وافية عن المجتمعات العربية، وما فيها من عادات وتقاليد وأعراف، وما فيها من أحياز قبلية وعشائرية وطائفية.. من جهة ثانية.
وهنا تربخ أهمية هذه اليوميات لأن الموضوعية تشيع فيها مثلما تشيع الأضواء في النهارات العفية.
Hasanhamid55@yahoo.com