شعارات الوعي الزائف
أحمد حسن
بكل المقاييس، يبدو شعار “فلسطين ليست قضيتي”، الذي ترتفع أسهمه هذه الأيام، بالرغم من كورونا ومآسيه، كأكثر وأصدق الشعارات المعبّرة عن الوعي الزائف والشقي الذي يقارب به “عرب” اليوم، أو معظمهم للدقة، مشاكلهم ومعضلاتهم وكيفية حلها.
وبكل وضوح، فإن رافعي راية هذا الشعار الحقيقيين – هناك من أطلقه جهلاً وهناك من رفعه مللاً وسأماً و”موضة” – يريدون منه القول: إن فلسطين وقضيتها، وبالتالي شعبها، عقبة في حل مشاكلنا الحقيقية، أي مشكلتي “الخبز” و”الحرية”، كما مشكلة الأمان عند البعض الآخر، وإن الالتزام بها مانع حقيقي من التقدّم والازدهار.
وبكل تأكيد، فإن هذا الشعار خاطئ بامتياز – إن لم نقل أكثر من ذلك – فإذا كان من الصحيح أن مأساة فلسطين الأصلية بدأت باختيارها كضحية لمشكلة أوروبا مع يهودها، وهي مشكلة لا ناقة لها فيها ولا جمل، إلا أن الاختيار الأوروبي لموقع الحلّ، جغرافياً، كان له هدف أوسع من المشكلة الأصلية ومن الجغرافيا المحدّدة، وهو أن يصبح هذا الموقع، بشاغله الجديد، رأس حربة المشروع الاستعماري – الموجّه للمنطقة بأسرها – ذي الطبيعة النهبيّة الكلبيّة لـ “الخبز”، بمعناه الأوسع والأشمل طبعاً؛ وبالتالي ليست فلسطين أرضاً محتلّة تخص شعباً مشرداً فقط، أو حتى قضية مقدّسة تخص مجموعة دينية محددة، بل هي في طبيعتها الإنسانية، كما في موقعها الجغرافي (في القلب من دول طرفية تابعة للمركز الرأسمالي)، قضية لا تنفصل أبداً عن قضايا الخبز والحرية لجميع القاطنين في هذه المنطقة، إن لم نقل لأبعد منهم بكثير.
وإذا كان لاحتلال فلسطين أن يحصل نتيجة موازين القوى العالمية السائدة فإنه لم يكن ليصمد طوال هذه الفترة لولا عملية كيّ تاريخية للوعي العالمي والعربي، بدأت بأسطورة “أرض الميعاد” المستعادة، وتواصلت مع مقولات عدة أهمها: إننا لا نستطيع محاربتها لأننا سنحارب أمريكا حينها، ثم خرج من يقول: هذا يكفي لأننا أدينا واجبنا وزيادة اتجاه فلسطين، وأن ثمن الوقوف معها أكبر بما لا يقاس، ولا يطاق، من ثمن “الحياد” أو “النأي بالنفس” عنها، ثم جاءت مقولات “أبناء العم”، و”ضرورة تزاوج المال العربي والذكاء الإسرائيلي” كرافعين وحيدين للتقدّم والازدهار، من يقف معها فهو معتدل، ومن يقف ضدها فهو متطرّف، وكان من “الطبيعي” بعد ذلك أن تصبح “إسرائيل” – في مرحلة أولى – واقعاً موضوعياً لا بدّ من التطبيع معه، لتغدو – في مرحلة ثانية – حليفاً موضوعياً لا غنى عنه ضد أعداء جرى اختلاقهم قسراً؛ وبالتالي كان من الطبيعي أن تصبح المقاومة “مغامرة غير مسؤولة”، ثم عملاً إرهابياً، وفي خطوة لاحقة أصبحت هي المسؤولة عن الخراب، وليس العملاء والفئة الفاسدة المرتبطة ذيلياً بالغرب، والتي نهبت وسرقت بحماية مباشرة منه.
بهذا المعنى، نفهم شعار “فلسطين ليست قضيتي” كشعار زائف ناتج عن وعي شقي، محصلته الحقيقية المزيد من الاغتراب عن قضايا الأمة والفشل في إيجاد حلّ سليم لها، خاصة أن الوقائع الموضوعية أثبتت أن كل طرح – أو حراك، أو ثورة – لا يرفع قضية فلسطين إلى جانب قضيتي الخبز والحرية، كمسارات متوازية ومترابطة، لن يكون إلا طرحاً قاصراً، أو ثورة زائفة، وعلى أبعد تقدير مجرد انقلاب آخر لا يتغيّر فيه سوى بعض الأشخاص وبعض التكتيكات والتفاصيل لا السياسات الاستراتيجية، ولن يكون مآله المنطقي إلا الحضن “الإسرائيلي” والدلائل على ذلك أكثر من أن تُعدّ وتُحصى.
بالمحصلة، في شروط منطقتنا وقضاياها المترابطة، تبدو المعادلة الحاكمة واضحة وبسيطة للغاية، ومفادها: إذا كان الخبز والحرية قضيتي فإن فلسطين قضيتي حكماً، وإذا كانت فلسطين ليست قضيتي فإن “إسرائيل” هي قضيتي حكماً، وكل كلام آخر هو كلام زائف ليس له سوى المساهمة في تأبيد هذا الوعي الزائف الذي ينقلنا باستمرار من قعر إلى آخر أبعد مدى وأعمق غوراً.