” مَقْرود “
عبد الكريم النّاعم
نظر صديقه في وجهه فقرأ العميق من المعانيات التي لا يستطيع قراءتها إلاّ مَن يمتلك حساسية عالية، وهذه قد يعرفها الصديق في صديقه عبر المعايشة الطويلة، جلس، وصمت، فسادَ فراغ لا تشغله المجرّات، أخذ نفَسا طويلا وقال له: “ما بك؟ أنت في مِزاج عكِر كما قرأت في صفحة وجهك”؟
أجابه: “أعلم أنّك تقرأ ما لا يستطيع قراءته غيرك فيّ، وأنا ليس لديّ ما أخفيه عنك، وقد أتعمّد ألاّ أتكلّم بما في داخلي لأنّي لا أريد أنْ أنقل ما في تلك الأعماق إلى الآخر”.
قال له: “أتظنّ أنّك تريحني بذلك؟! أنا أزداد قلقاً حين لا تبوح، لأنّني أشعر أنّ ثمّة فجوة غير مرغوبة قد تشكّلت، في غفلة، أو عن عمْد”.
ارتسمت ملامح انفراج بعيدة في معالم وجهه، مشوبة بقدر كبير من الأسى، والأسف، والحزن، وقال: “يا صديق العمر، من منسيّاتك أنّ الذي يشكو من بعض ما أحمله، عند البدو، يسمّونه (مَقرود) – القاف بدويّة – أي أنّه غير موفَّق في حياته”!!
قاطعه محتجّاً: “أنت مقرود”؟! أستغفر الله العليّ العظيم.. كان لديك من الأصدقاء ما تُحسد فيه، وكان لك حضور في المجالس ما تُغبَط عليه، وسُمْعتُك والحمد لله مثل المسك”!!
أجابه: “أنا مقرود من الداخل”.
قاطعه: “هذه قد تحتاج إلى شرح”!!
قال: “عوالمنا الداخليّة تشغل الحيّز الأكبر من حياتنا، دون أن ننتبه إلى ذلك، وهذا له انعكاساته على السطح بقدر ما فيه من عصف داخليّ؛ وتعلم تلك الصلة بين النفس وبين الجسد، حتى أنّ إحدى النظرات الفلسفيّة الشرقيّة تقول إنّ المرَض، كمثال، يبدأ في النفس، فإن هي انتصرت عليه كان الشفاء، وإن لم تنتصر عليه يظهر في الجسد، ولكي لا أطيل عليك في الاستطراد، سأذكر لك بعض ما يمرّ بي:
“أشاهد على التلفاز لقطة من لقطات الدّواعش، وفيها شاب قد ألبسوه ثوبا أحمر، وشدّوا وثاقه، وتجمهروا حوله وكأنّهم يمارسون طقساً مقدّسا، لا أثر فيه للحس الإنساني، ويُركعونه، ويقف على رأسه شبح مقنّع، بيده سكّين، ويُمسك بشعر رأسه، ويجذبه إلى الوراء قليلا ليتمكّن من رقبته، ليذبحه، في هذه اللحظة أُصبح أنا الجالس الذي سوف يُذبَح، وأتخيّل ما الذي يفكّر فيه الإنسان في مثل هذه اللحظة، ويغيب المشهد عن الشاشة، ولكن أصداءه تتماوج في أعماقي، ولا أخرج من ذلك الفضاء بسهولة”.
“أجلس بجانب المدفأة شتاء، حين يتوفّر المازوت، وبدلا من الاستسلام لحسّ الدفء في الصقيع الجليدي الذي مرّ بنا، أقفز فجأة إلى مواقع الشمال حيث تدور المعارك ضدّ الوهّابيّين والإخوان التكفيريّين، وأتساءل: كيف يعيش هؤلاء المقاتلون وهم يتعاملون مع الحديد البارد؟ وكيف يستطيعون تنفيذ مهامهم في الجوّ القارس؟ فأجد نفسي أقف واحدا بينهم وتغيب لذّة الدفء إنْ توفّرت”.
“أحد ضباط جيشنا من الذين تستضيفهم الفضائيات كخبراء عسكريّين، كانوا في الخدمة، قال في معرض حديثه إنّه اتّصل بأحد الجنود المقاتلين في جبهة تحرير إدلب، فقال له العسكري إنّه لم ينم منذ ثلاثة أيام، ويشعر وكأنّه في عرس، وأنّه لم يخلع حذاءه العسكريّ منذ خمسة عشر يوماً، فأجد نفسي وقد تقمّصت حالته، هل جرّبت أن تنام دون أن تخلع جراب رجليك لمدّة يومين أو ثلاثة؟”.
“هذه الحالة لا أستطيع السيطرة عليها، ولذا أقول لك إنّني (مقرود) نفسيّاً، فكيف في مواجهة جائحة الكورونا، وما يستتْبعها؟!”.
قال له: “هذه الحساسيّة العالية التوتّر، في تقديري، قد تكون أحد منابع الإبداع، بالنسبة للذين يمارسون الكتابة”
أجابه: “أفهم ذلك، ولكنّه متعب، وقد يتحوّل في النوم إلى كوابيس لا يُعرف لها ذيل من رأس”.
قال له: “هل يرضيك أن تكون كالذين لا يرون من الوطن إلاّ شفط أمواله، ونهب خيراته، وسرقة كلّ ما تطالهم أيديهم”؟!
انتفض محتجّا، وقال له بحزم : “ألف مقرود، ولا أكون من هؤلاء الذين ماتت ضمائرهم، وانعدم لديهم الحس الإنساني.. ألف مقرود، ولا “سرّاق”!!
aaalnaem@gmail.com