الكفاءات الوطنية.. مسؤوليات للنهوض بالواقع وتغييب متعمد لإمكانياتها
في الفترة الأخيرة انتشرت العديد من الدراسات والمواد الإعلامية، والآراء التي تناولت موضوع التنمية بعد الحرب الغادرة التي تعرّض لها القطر بعضها تدعو لعودة الخبرات، والكفاءات، وبعضها تتضمن أن أصحاب الشهادات غير مهمين في مراحل البناء الحالية، في حين أن قوة العمال والفلاحين وغيرهم مهمة أكثر في وضعنا الراهن، وبعضها تطالب بعودة الكفاءات والأدمغة، وأمام هذه الدراسات المتنوعة، والتي توقعنا في الحيرة، حاولنا الحصول على آراء قد توضح المشكلة، وتقترح الحلول الأنسب لدفع عمليات التنمية.
بحاجة الجميع
المحلّل الاقتصادي عامر ديب أوضح أن العلم والخبرة يسيران في خطين متوازيين، ولكن غالباً ما يفتقر ذوو الشهادات للخبرة في بعض المجالات كأسواق العمل، في حين أن الخبير في العمل أو الأسواق غالباً ما يفتقر للشهادات والمؤهلات العلمية، وأمام هذا علينا أن نميز بين أمرين، الأول أننا اليوم بحاجة أكثر فأكثر في مجال الأسواق لمن يمتلك الرؤية الاقتصادية، وإرادة النهوض بالواقع الاقتصادي بغض النظر عن مؤهلاته العلمية، فدور الخبير، والملم بالأسواق مهم بنسبة كبيرة تصل إلى 80% في حالة اقتصادنا ما بعد الحرب، والاعتماد على ذوي الشهادات العلمية والمعلومات الأكاديمية وحدهم وبنسبة كبيرة سيعني الانتظار لسنوات عديدة ريثما يكتسبون الخبرة العملية للتعامل مع الأسواق، وهذه مشكلة بالنسبة لوضعنا الحالي الذي لا يحتمل التأجيل.
وتالياً هناك مهن لا يمكن أبداً العمل بها دون دراسة أكاديمية وتخصّص، كالطب والهندسة.. وغيرها، كونها تتعامل مع حالات علمية ولا تتعامل مع أسواق.
من جهة أخرى لفت ديب إلى أن أخبار التراجع المعيشي وضعف القوة الشرائية يشكلان عوائق وعوامل منفرة أمام عودة الخبرات التي هاجرت من القطر، وهذا كما هو معلوم يستتبع أن نؤمّن البيئة المناسبة لعودة هذه الأدمغة كي لا نخسر مساهماتها في عمليات إعادة البناء، وتحقيق التنمية، وبالنهاية الوطن بحاجة للجميع، ولا يوجد أحد عالة على عمليات التنمية، سواء كان من ذوي الشهادات أو الخبرة في الأسواق الصناعية والزراعية، والتجارية، والسياحية، أو حتى من الحرفيين، وعلى كافة المستويات.
الكفاءات ما زالت هنا
الخبير الاقتصادي والإداري محمد كوسا أكد لنا أنه كثُر الكلام عن عودة الكفاءات بعد انتهاء الأزمة للزج بهم في عمليات الإصلاح الإداري، والاقتصادي، إلا أنه شخصياً مع كل كفاءة تهب نفسها للإنسانية أولاً، وللوطن وأهله دائماً، فالمتتبع لمناشدات البعض بعودة الكفاءات يظنّ أن كل الكفاءات هاجرت، ومن بقي داخل القطر لا كفاءة له، وهذا حكم لا يستند إلى الواقع، فمن هاجر من الكفاءات قلّة، ومشروعهم متباين الأهداف، والواقع أن أغلب الكفاءات مازالت في الوطن وباقية فيه، وتنتمي إليه، لكن واقعاً من القسوة في وطن جراحه كثيرة حيّدها، وأغفل حقوقها، وغيّب مشاركتها، ولأن فساد العقول في زمن أتاح للضالين أن يحتجوا بنصف الحقيقة، فقلبوا الحق، وأفادوا ضده، وحتى لا يصيبنا الإحباط، ويشدنا التكاسل، يتوجب علينا أن نقف مع الذات بلحظة مواجهة، وألا ندمن التفسير، وكل ظننا أننا ندخل المستقبل، ونحن أبعد ما نكون عنه.
إن إحضار الكفاءات في حال قبلوا العودة قد يحتاج سنوات، وواقعنا الصعب، والملح لن يتحمل الانتظار، فلماذا الإصرار على عودتهم ونعلم أن التكلفة ستكون عالية والأمل ضعيف في الاستفادة منهم؟. إن من يطرح هذا الطرح يستفيد من فرصة الوثوب في ذهنه إلى أهداف وغايات قديمة رسمها مسبقاً متأثراً بمخلفات الماضي، وسياسة النقل، والتقليد من السابقين، وصحيح أننا بحاجة للكفاءات نتيجة إبقاء قيادات إدارية، أو اقتصادية، أو اجتماعية في مواقعها رغم أنها غير كفوءة، أو غير مناسبة لأسباب واهية كالخوف من تبديلها، أو بسبب اعتماد العلاقات الشخصية، والمنفعة عند تعيينها، أو بسبب القوانين، والإجراءات، والعراقيل الشكلية التي تساعد في بقاء هذه القيادات، لكننا الآن في مرحلة ما بعد الحرب لابد لنا من تبديل جميع الخيارات غير المدروسة، والخروج من حالة الضياع، والتخبط، كما أنه في حال الإصرار على عودة الكفاءات سيثير عدة أسئلة أولها موضوع الثقة؛ فكلنا يعلم أن معظم الكفاءات هاجرت أثناء الحرب، وفي حال عادت وقت السلم فهل ستبقى في وطنها مجدداً في حال تجدد أزماته؟.. ثم كم يحتاج نظامنا الاقتصادي والإداري إلى مثل هذه الكفاءات؟، ومن سيقرر ذلك؟ وكيف سيتم توزيعهم لاستخدامهم بالشكل الأمثل؟ وهل سيشارك هؤلاء في عمليات الإصلاح الإداري والاقتصادي، وإعادة البناء، والإعمار في حين يجلس غيرهم من كفاءاتنا على مقاعد الاحتياط منذ زمن دون من يقدّر خبراتهم، ومؤهلاتهم العلمية؟
وعلينا أيضاً قياس التكلفة والنتيجة، فأي ضرر سيكون أكبر من أن نحضر من هاجر، وربما نقضي على فرصة الكفاءات الموجودة بشكل قد يدفع بعضهم للهجرة؟.
هل من جدوى؟
عبد الرحمن موسى أكد أن هجرة الأدمغة أو الكفاءات، أو القوى المنتجة، أو اليد العاملة الخبيرة، مصطلحات كنا نسمعها كثيراً منذ الصغر سواء في وسائل الإعلام، أو في كتبنا المدرسية، والآن بعد الحرب التي حدثت في سورية الكل يعول على عودة المغتربين، وأموال المغتربين، وعلى استقطاب الكفاءات ممن هاجر لاستثمارهم في إعادة الإعمار، لكن الغالبية يتناسون حجم البطالة الموجودة في أسواق العمل التي تصل إلى حدود غير مسبوقة، وارتفاع نسبة الإعالة، أما اليد العاملة الخبيرة فقد لا تكون مرغوبة في معظم الحالات في أسواقنا، ويكثر البحث عن اليد العاملة الرخيصة لدرجة أنه انتشرت لدينا نسبة عمالة أطفال مخيفة في سوق العمل، أما عن الباحثين والعلماء فلو عادوا يا ترى هل توجد مؤسسات بحثية تتناسب مع اختصاصاتهم وقدراتهم، وتتبناها؟. وهل يوجد باحثون يتعاونون معهم؟ فكما نعلم أن الأبحاث العلمية تتمّ بأثر تراكمي، ولا يمكننا البدء فيها من نقطة الصفر، في حين قطعت أشواطاً في غير دول، كما أن الاختصاصات لدينا مازالت ضحلة فنحن لا نملك مصانع ميكانيك، أو إلكترونيات، أو كهربائيات وأغلبها منشآت تجميع، أو تصنع القطع البسيطة فقط، وحتى لو فكروا في الصناعة ستكون الجدوى الاقتصادية قليلة، والاستيراد لازال سيد الموقف. ويتابع موسى: لست مع عودة الكفاءات نهائياً في الوقت الراهن قبل تأمين العمل، والفرص المناسبة لمن في الوطن، رغم أن رأيي له منعكسات خطيرة جداً وخاصة على الصعيد الاجتماعي، فالوطن بحاجة للعقول للارتقاء به، ومحاربة التخلف مهما كانت الفرص قليلة.
بشار محي الدين المحمد