دراساتصحيفة البعث

العرب بين بلطجة ترامب وهوس أردوغان …

الدكتور سليم بركات

في أكثر من مناسبة أعلن ترامب أنه سيسحب القوات الأمريكية المتواجدة في سورية، وأنه سيترك لتركيا أردوغان مهمة محاربة الإرهاب الذي ادعى أنه  يحاربه، إعلان اشترط من خلاله ترامب على أردوغان أن يؤمّن حماية حلفائه من الأكراد المرتبطين بالولايات المتحدة الأمريكية ومن يدور في فلكها، لا بل حماية من يدّعي أردوغان أنه عدوه في الوقت الذي يتحالف مع البعض منه في إطار الإستراتيجية الأمريكية التركية القديمة الجديدة والتي تعد الكردية السياسية إلى جانب الصهيونية جزءاً منها. وفي أكثر من مناسبة أعلن ترامب أنه اتفق ونظيره التركي أردوغان على ضرورة إيجاد مناطق آمنة في سورية، وكانت نتيجة هذا الاتفاق المزيد من الاحتلال الأمريكي والتركي للأراضي السورية، ودليل ذلك الوجود الأمريكي في الجزيرة السورية شرقي الفرات، والوجود التركي في محافظة ادلب شمال سورية، زد على ذلك أنه في كل عملية عسكرية كانت تقوم بها تركيا ضمن الأراضي السورية كانت تدّعي أن هذه العملية قد جاءت بتنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهذه حقيقة واضحة لا ينتابها غموض.

عملياً بدأ الاحتلال الأمريكي شمال سورية في أواخر عام 2015، نتيجة تحالف بين ما يسمى قوات سورية الديمقراطية (قسد) وبين الولايات المتحدة الأمريكية تحت عناوين محاربة الإرهاب، وفي الطليعة محاربة تنظيم “داعش” الإرهابي.  وتعدّ قاعدة التنف التي أنشأها بالتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ومن يدور بفلكها في عام 2014 قرب حدود سورية مع العراق والأردن من أهم القواعد العسكرية لهذا التحالف، وإلى جانب قاعدة التنف يوجد قواعد أمريكية أخرى في الرميلان بمحافظة الحسكة قرب الحدود مع تركيا والعراق، كما توجد قاعدة المبروكة غرب مدينة القامشلي، وقاعدة خراب عشق غرب مدينة عين عيسى، وفي عين عيسى ذاتها توجد القاعدة الأكبر مساحة للجيش الأمريكي، هذا بالإضافة إلى قاعدة عين عرب في ريف حلب الشمالي، وقاعدة تل بيدر شمال محافظة الحسكة والقامشلي بالقرب من الحدود السورية التركية إلى جانب قاعدة تل أبيض والحبل على الجرار. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الخضم هو هل كان هذا الاحتلال الأمريكي التركي اللا شرعي للأراضي السورية خارج الشراكة الأمريكية التركية الإستراتيجية أم ضمنها؟ لا شك أنه ليس بمعزل عن التنسيق بين الطرفين.

من هذا المنطلق يعد الطرف التركي شريكاً ضالعاً إلى جانب الأمريكي والإسرائيلي والرجعي العربي في  تصنيع الإرهاب الذي غزا المنطقة العربية تحت شعار ما يسمى بـ “الربيع العربي”، ولما كان أردوغان في طليعة من صنع الإرهاب ودعمه، ويستضيف قياداته فكيف سيحاربه وهو من حواه، ومده بكل عون، وسهل مروره، واستغل وجوده ومازال يستغله حتى يومنا هذا، كل الحقائق وتطورات الأحداث على مستوى المنطقة تؤكد أن هذا الإرهاب كان ومازال يمثل مصلحة تركية أردوغانية بامتياز، كيف لا وهو محتضن من قبل الدولة التركية ويلقى الدعم من سلطتها بما في ذلك جيشها وأجهزتها الأمنية، كيف لا والممرات الحدودية التركية مفتوحة على مصراعيها للمجموعات الإرهابية القادمة من جميع قارات الأرض إلى سورية وباقي بلدان المنطقة، كيف لا وجميع الوثائق والصور لدى أجهزة الأمن الدولية تؤكد علاقات تركيا مع المجموعات الإرهابية ولاسيما المصنفة منها إرهاباً من قبل مجلس الأمن الدولي وعلى رأس ذلك تنظيم “داعش وجبهة النصرة”. زد على ذلك التسهيل التركي للمجموعات الإرهابية لنقل ما يلزمها من عتاد ومعدات سواء من تركيا أو عبرها ليس إلى سورية فقط، وإنما لكل موقع يتواجد فيه هذا الإرهاب على مستوى المنطقة والعالم، كيف لا وصهر أردوغان “بيرات ألبيرق” كان على رأس المتورطين في عمليات تهريب النفط بين “داعش” وتركيا، كيف لا والصحف التركية وعلى رأسها صحيفة “جمهورييت” تتناقل الفضائح الكبرى عن تورط أجهزة الأمن التركية في توصيل مختلف أنواع الأسلحة إلى مناطق في سورية تسيطر عليها جماعات إرهابية، ومن ثم أليس ما يجري في محافظة ادلب دليلاً على ذلك،  كيف لا وقد حكم على رئيس تحرير هذه الصحيفة “جان دوندار” وزميله “آردم غل”  بالسجن لمدة خمس سنوات بعد إدانتهما من قبل المحاكم التركية بتهمة إفشاء أسرار الدولة، كيف لا والرئيس التركي أردوغان مستمر بنقل هذه المجموعات الإرهابية إلى ليبيا، ومصر، واليمن، لتحقيق أحلامه العثمانية، كيف لا والمرحلة الحالية التي يحضر لها أردوغان تستدعي استحضار “داعش” مرة أخرى، كي تعطي أمريكا لتركيا ضوءاً أخضراً من أجل تنفيذ مخططها الميداني في شمال سورية، مخطط يمكن الجيش التركي من العمل بحرية ليس على الأرض السورية فحسب وإنما على الأرض العربية من سورية إلى ليبيا، إلى اليمن، والحبل على الجرار.

في هذا الإطار الأردوغاني الإرهابي المهووس بالعثمانية نجد اهتمام تركيا بـ ليبيا بعد سورية منذ بداية مرحلة ما بعد سقوط القذافي عام 2011، اهتمام أصبح أكثر وضوحاً اليوم، ولاسيما بعد انطلاقة الجيش العربي الليبي بقيادة اللواء خليفة حفتر لتحرير مدينة طرابلس مركز حكومة فايز السراج حليف أردوغان في نيسان عام 2019، إنه الوقت الذي وجد فيه أردوغان لنفسه طريقاً جديداً لتوسيع نفوذه السياسي والعسكري المحكوم في تحقيق أحلامه الاخوانية العثمانية، وللمنافسة الأوروبية التي تقوم على الحسابات الاقتصادية، منافسة تقدم ليبيا من خلالها لتركيا آفاقاً ترتبط بتطوير البيئة التحتية التركية وإعادة الإعمار، وبإظهار  قدراتها العسكرية عن طريق بيع الأسلحة إلى حكومة السراج المتمركزة في طرابلس، هذا بالإضافة إلى فرض وجود عنصر إيديولوجي وهو إخضاع حكومة السراج لتأثير الإسلاميين في سياق التوجهات التي يتبناها ويسعى لتحقيقها الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” المتشدد في دعمه لحكومة السراج الاخوانية، هذا التشدد الأيديولوجي الذي أغضب العديد من دول المنطقة.

في هذا الإطار أيضاً ينظر إلى التدخل التركي وحليفه القطري في اليمن، على أنه تصعيد ورغبة أردوغانية في استخدام مشابه لما يقوم به أردوغان في كل من سورية وليبيا عبر جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، وفي هذا السياق ذكرت وسائل الإعلام الغربية وعلى رأسها البريطانية، أن تركيا ترسل إلى اليمن العشرات من ضباط الاستخبارات تحت لافتات الإغاثة الإنسانية لهذه الغاية، ويتناغم مع ما تذكره هذه الوسائل مع تصريحات لرجال أعمال يمنيين موالين لقطر تضمنت  تمكين تركيا أردوغان من بعض القطاعات الاقتصادية الحيوية مثل الموانئ والمطارات والنفط والغاز، كما تؤكد هذه الوسائل الإعلامية على وجود تشابه بين الدور التركي في اليمن  والدور الذي تلعبه تركيا في كل من سورية وليبيا، وهو دور ينطلق من  مصالح تركية قطرية اخوانية مدعومة أمريكياً تعيش وهم استعادة الإمبراطورية العثمانية، وهذا الدور لا يقوم حالياً على التدخل التركي المباشر كما في سورية وليبيا، وإنما يقوم على إحداث  تواجد تركي غايته الوصول إلى مناطق النفط والغاز اليمنية، وتحويلها إلى منطقة تدخل في حال شهد التحالف الخليجي الاخواني مزيداً من التدهور، وفي حالة شبيهة بالحالة الليبية.

ما من شك في حال استطاعت تركيا وضع قدم لها على السواحل اليمنية، ستكون بذلك قد خطت خطواتها الأولى في تحقيق مشروعها التوسعي في منطقة الخليج وبالقرب من المضائق والممرات الحيوية في البحر الأحمر، مشروع بدأته بتركيز وجودها في الصومال وبمحاولتها الاستحواذ على جزيرة “سواكن” السودانية، وصولاً إلى مساعيها للاقتراب من باب المندب وبحر العرب، ولا نجانب الحقيقة إذا قلنا أن بصمات تركيا قد أصبحت واضحة في هذا المنحى من خلال إشعال التوتر الطائفي في اليمن وعبر عمليات تخريبية تديرها عناصر يمنية تقيم في اسطنبول، كما لا نجانب الحقيقة إذا قلنا أن حصول تركيا على امتياز التنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية الصومالية، سيمتد من خلال فرض الأمر الواقع إلى مناطق خارج الحدود الصومالية مثل اليمن وليبيا، انطلاقاً من القاعدة العسكرية التركية الموجودة في الصومال، زد على ذلك أيضاً أن السيناريو التركي الممتد في ليبيا اليوم سيكون مكرراً في الصومال، وعلى غرار ما فعلته وتفعله حكومة فايز السراج بالتنازل عن مياهها الإقليمية وثرواتها الغازية لصالح تركيا مقابل حمايتها وتسليحها.

بقي أن نقول إن أردوغان الذي يدعم ويمول التنظيمات الإرهابية وفق إستراتيجية أمريكية صهيونية سيبقى يسير على نهج هذه الإستراتيجية، حتى يجد لنفسه موطىء قدم في الأرض العربية، يستطيع من خلالها تحقيق أحلامه وفق المخطط الاخواني المدمر، زد على ذلك سعيه نحو  استعادة شعبيته المنهارة ليس على مستوى المنطقة فحسب، وإنما على مستوى الداخل التركي المقموع والمنكّل به من قبل أردوغان وحزبه. والسؤال الذي يطرح نفسه أما آن للعرب أن يدركوا أن حريتهم واستقلالهم ونهوضهم مرهون بالوعي والمسؤولية  للتخلص من الواقع المرير الذي يعيشونه اليوم، وهذا لا يكون إلا من خلال تضامنهم ووحدة موقفهم.