حــارس الضــوء
د. نضـال الصـالح
باستثناء المسرح، لستُ من هواة متابعة ما ينتسب إلى فنّ الدراما، ولا سيما الأعمال التي يُصطلح عليها بالمسلسلات التلفزيونية، ولذلك قلّما أتابع عملاً إلا بعد رؤيتي، مصادفة، حلقة منه، ليقيني بأنّ الأثر الذي تتركه الدراما في المتلقي طارئ بامتياز، على النقيض من الكتاب، أياً كان الحقل المعرفيّ الذي ينتمي إليه، الذي لمّا يزل، وسيبقى كما أقدّر، في صدارة وسائل المعرفة على الرغم من محاولات وسائل الاتصال الحديثة الكثيرة لسحب البساط من تحت قدميه.
في اليوم الأول من رمضان وجدت نفسي مشدوداً إلى الحلقتين الأولى والثانية من مسلسل “حارس القدس” بتوقيع حسن م. يوسف مؤلفاً، وباسل الخطيب مخرجاً، وفي خاتمة الثانية رأيتني أصفّق للجمال الذي أبدعه كلاهما، كما أبدع رشيد عساف وصباح الجزائري في بطولته، ومجمل طاقم التمثيل في أداء أدوارهم فيه، وبدرجات متفاوتة فيما بينهم، والذي يعزز صواب الأطروحة القائلة إنّ الدراما تكون فعلاً إبداعياً رفيعاً بشروط مركزية أربعة: كاتب، ومخرج، وموضوع، وممثل، وغياب أيّ من هذه الشروط يعني سلعة فحسب.
النصّ مشغول بمهارة عالية خالية من الإنشاء والشعارات، ودالّة على حصافة واضحة في الانتقال من مشهد إلى آخر وفق رؤية نصية محكمة ومعبّرة عن الفردي والجمعي في شخصية المطران هيلاريون كبوجي منذ كان طفلاً على مقاعد الدراسة في مدينته، ومدينتي، حلب، وممتلئة بحمولات معرفية كاشفة عن سمتين تميزانها، أعني الشخصية: أولى تخصّ سيرتها الذاتية من جهة، وثانية تعني وعيها بقيم الحقّ والخير والجمال في وقت مبكّر من حياتها من جهة ثانية.
وما سبق ممّا يعني النصّ يعني الإخراج بآن، مضافاً إليه عين باذخة الرهافة في بناء صورة بصرية تعلي من شأن الأثر الذي تطمح الكلمة إلى تأكيده أو تثمير حضوره في وعي المشاهد، وتجهر بحساسية عالية تنتسب إلى نفسها، وتعني مبدعها الخطيب وحده، وتميزه من أبناء جيله من المخرجين، وذلك من خلال إلحاحها الواضح على ثلاثة حوامل لهذا الأثر: تبئير الصور أو المشاهد الأكثر صلة بمقاصد الحوار من خلال نافذة أو باب، وعلى نحو يستعيد إلى الذاكرة مدرسة بعينها في الإخراج السينمائي، وغلبة الفضاءات المفتوحة على الفضاءات المغلقة، فالصورة نفسها بوصفها نصاً موازياً للنص المكتوب وليس بوصفها ترجمة بصرية له.
وإذا كان من البدهيّ أن يكون أداء رشيد عساف وصباح الجزائري عالياً لغير سبب، منها ثراء تجربتهما في هذا المجال، فإنّ أداء الطفل ربيع جان لدور المطران في مرحلة الطفولة من حياته يحمل دلالتين بآن: بزوغ موهبة جديرة بالتصفيق والتشجيع من جهة، وحصافة المخرج في اختياره هذه الموهبة لأداء هذا الدور من جهة ثانية.
وبعد، وقبل، فإذا كان شرف الموضوع، أيّ موضوع عظيم، لا يعني شيئاً في الفنّ إنْ لم تكن ثمة رافعة جمالية له، فإنّ “حارس القدس” يمتلئ بغير إشارة إلى أنّ قدسية رسالته نصّاً وجدت مثالها الأعلى في براعة هندسته إخراجاً. وبعدُ وقبلُ أيضاً، فلعلّ من بعض جماليات هذا العمل أنه لم يسقط في شرك ما سبقه من أعمال كثيرة فيما يعني لهجة أهل حلب، ففي الوقت الذي حفظ لهذه اللهجة إيقاعها الخاص بها أطلقها بآن من وهم الخصوصية التي تميزها من سواها من اللهجات.