“مغامرات الأمير أحمد” أول أفلام سينما الرسوم المتحركة
منذ بداية القرن العشرين، شكّلت أفلام الرسوم المتحركة عالماً “موازياً” لعالم الأفلام الأخرى التي تعتمد التصوير المباشر لمواد وأشخاص الواقع الحقيقيين، سواء أكانت تلك الأفلام وثائقية أم روائية. وفي نهاية القرن التاسع عشر، ووسط خضّم من محاولات إبداعية متتالية شملت جميع حقول الآداب والفنون، تبلورت تدريجياً على شكل مدارس واتجاهات إبداعية حداثية رسمت مسيرتها منذ بداية القرن العشرين وصولاً إلى سنوات ما بعد الحرب العالمية الأولى التي تسببت في زعزعة الكثير من المفاهيم المتداولة وهّزت القناعات، وجعلت الناس يفقدون الثقة بقدرة العقل على تفسير الواقع، بحيث ترسّخت المدارس والمناهج الإبداعية التي تمردت على كل ما هو قديم متبع، وسعت ليس فقط للتجديد في الشكل بل أيضاً للبحث عن مواد ووسائل إبداعية جديدة.. وهكذا ظهرت المدارس التكعيبية والمستقبلية والسريالية والدادائية، وتعمّمت على حقول الإبداع الفني والأدبي.
ولم يكن حقل السينما ببعيد عن المتغيرات الجديدة، وقد تطورت التجارب فيما بعد على شكل أفلام ممهدة الطريق أمام تكريس الرسوم المتحركة كنوع فيلمي سيخصص فيما بعد للأطفال إلى جانب استمراره كنوع من فن تجريبي عبر أفلام قصيرة يحقّق من خلالها فنانون سينمائيون رؤاهم الفنية التي تعجز عنها السينما التي ترهن نفسها لنقل صور الواقع المادي وتصبح أسيرة لعملية النقل هذه ومقيدة بها، ومن أهم فناني أفلام الرسوم المتحركة في العشرينيات من القرن الماضي المخرجة الألمانية لوتيه راينجر التي اشتهرت كفنانة أفلام رسوم متحركة منذ العشرينيات من القرن الماضي، واستمرت في صنع أفلام الرسوم المتحركة نحو خمسين عاماً، تميزت خلالها بأسلوبها الخاص في أفلام الرسوم المتحركة. ويعتبر فيلمها “مغامرات الأمير أحمد” واحداً من أوائل أفلام الرسوم المتحركة التجريبية الطويلة في العالم، ويعود إنتاجه لعام 1926، وساعد المخرجة في تنفيذ رسومات هذا الفيلم مجموعة من فناني الرسوم المتحركة الألمان. وفي النتيجة ظهر هذا الفيلم الطويل، حسب مقاييس ذلك الزمان، ليبّرهن على قدرة المخرجة على تقديم شخصيات مؤّثرة وسرد حكاية من خلال تصاميم فنية تشكيلية معقدّة، ولكنها تتميز بحس رائع بالحركة، وحكاية فيلم “مغامرات الأمير أحمد” مستمدة من حكايات وأجواء “ألف ليلة وليلة”، وهو بهذا يعتبر من أوائل الأفلام التي تأثرت بهذه الحكايات وأجوائها الأسطورية.. ولم تكتفِ المخرجة باقتباس أحداث الحكاية بل إنها طعّمتها بأساليب فنون الشرق وبخاصة فن المنمنمات، ويتميز الأسلوب الفني الذي استخدمته المخرجة في الفيلم بجمعها مابين فن الزخرفة الإسلامي وأشكال خيال الظل، ووضعها جميعاً في قالب ديكور تقليدي صيني مع رسم شخوص الفيلم بملامح صينية، وكأن المخرجة بهذا أرادت أن تجمع فنون الشرق المختلفة في عمل فني واحد، ولهذا تعتبر رسومات هذا الفيلم لوحات تشكيلية رائعة متميزة فريدة من نوعها .
هذا الجوهر المتميز لفن الرسوم المتحركة هو ما أدى لاستمرار العديد من الفنانين حتى أيامنا هذه في اعتمادها وسيلة للتعبير عن أفكار صعبة معقدة ذكية من خلال إبداع فني سينمائي يعتمد الصورة المرسومة المتخيلة، ويستطيع أن يقدمها على نحو مكثف، وفي زمن مختصر جداً، ولهذا صارت الأفلام الفنية التجريبية من نوع الرسوم المتحركة بأطوال تتراوح ما بين نصف الدقيقة والعشر دقائق لتقول الكثير واللامعقول قوله من خلال السينما العادية ولتعرض على المشاهدين صوراً لاتراها العين في الواقع المادي .
ومع ما حققتّه مؤسسة والت ديزني في هذا المجال، صارت أفلام الرسوم المتحركة جماهيرية واتخذت مساراً مختلفا وبعيداً عن الروح الفنية التجريبية، باتجاه رواية القصص عن طريق أفلام طويلة وسلاسل فيلمية موجّهة للأطفال خصوصاً، لكن جماهيرية هذا النوع من السينما والشكل الذي اعتمدته كوسيلة لسرد القصص حمل في طياته تأكيداً على جوهر سينما الرسوم المتحركة، وتميزه عن سينما صورة الواقع من حيث قدرة هذه السينما على التعبير عن الخيال المحض وقدرتها على تجسيد صورة غير واقعية بشكل أدق، فمن دون إمكانات سينما الرسوم المتحركة (قبل اختراع تقنيات المؤثرات الخاصة بواسطة الكمبيوتر) هل كان ممكناً جعل الأشياء والنباتات والحيوانات تتحرك وترتبط فيما بينها بعلاقات وتتفاعل وتتحدث كما البشر، وتتحول من حال إلى حال ومن شكل إلى شكل أمام أعين المشاهدين من دون أن يبدو ذلك غريباً أو ضرباً من السحر، بل يتم استقباله بشكل طبيعي وكأنه من أمور الواقع العادية. وبالمقابل إذا كنا نلاحظ أن الأطفال يتعلقون بأفلام الرسوم المتحركة أكثر مما يتعلقون بالأفلام العادية فإن هذا يؤكد من جديد على تميز جوهر فن الرسوم المتحركة من حيث المبدأ، باعتباره محفزاً لخيال الطفل أكثر من فن صورة الواقع المادي. وفي السنوات الأخيرة بدأت سينما الرسوم المتحركة حالة المزاحمة والتنافس مع السينما العادية من خلال اندفاعها نحو صالات العرض الجماهيرية وتوجهها نحو المشاهدين.
إبراهيم أحمد