تشتت “الواقعية الرقمية”!
مع عودة الحياة إلى طبيعتها، وتتابع القرارات التي تؤكد انتهاء إجراءات كورونا، لابد من التأكيد على أن تقبّل الناس بكل رحابة صدر لذلك الاعتراف المتكرر من المؤسسة التنفيذية حول تعرّض سلتهم الخدمية والمعيشية لضربات موجعة نتيجة الأوضاع والظروف المختلفة لم يعد مجدياً، خاصة أنه بدأ يأخذ منحى التغطية على الأخطاء، وضعف الأداء، والانغماس في نشوة كاذبة في مخادع الإنجاز، وأوهام التقدم على جبهات تحسين الوضع المعيشي، والانتقال بحياة المواطن من القلة إلى الحدية المعيشية التي أصبحت هدفاً حكومياً لا يقل من حيث تداعياته الاقتصادية وتراكم التحديات عن محدودية هدف تحقيق الحدية في بعض شركات القطاع العام من خلال موازنات خلبية، وعمل إنتاجي خلبي، وتدوير أرقام المخازين من تقرير إلى آخر.
ولا شك أن المكاشفات الحقيقية ستدين أداء العديد من الوزارات من خلال وقائع مثبتة لا يمكن حشرها في زوايا الكيدية والاستهداف، فمثلاً طرحت في الأشهر الماضية الكثير من التساؤلات الباحثة عن العائدية الفعلية، والانعكاسات المعيشية والاقتصادية لأكثر من ١٠ آلاف مشروع خدمي وتنموي عملت عليها الحكومة – كما صرحت – خلال السنوات الماضية بقيمة ٨٠٠ مليار ليرة، تبدأ من مشروع صغير بقيمة ٥ ملايين ليرة، وتنتهي بمشروع كبير بقيمة ١٧ مليار ليرة. وطبعاً بالتدقيق بالواقع وانعكاسات هذه الأرقام على الحياة العامة، نصل إلى نتيجة واقعية مفادها أن تعدد الأرقام التي يحكى عنها أو يتضمنها الخطاب الحكومي لا يؤشر إلى حالة إنتاجية سليمة، أو إلى أداء تفاعلي حقيقي مع المستجدات، فالحصيلة الاستثمارية والإنتاجية يمكن من خلالها فقط تجسيد إيجابية التوجهات. وهنا لابد من وقفة مطولة مع المراحل والإجراءات التي تمت إلى الآن لترجمتها إلى حقائق مجسّدة على أرض الواقع في جميع القطاعات، وذلك لناحية زيادة الإنتاج، وخفض التكاليف، وخفض أسعار المنتجات، وانعكاس ذلك كله على الدخل الوطني والقدرة الشرائية والدورة الاقتصادية بحلقاتها المختلفة (المنتج والعامل والمستهلك)، ولا شك أن مفهوم زيادة الإنتاجية لا يقتصر على مجرد الإنتاج وتنمية الثروة الوطنية، وإنما يتسع حتى يشتمل أموراً كثيرة مثل زيادة الطاقة الإنتاجية، ورفع مستوى المعيشة، وتنشيط كافة مجالات التطوير والإبداع، والنهوض بالمجتمع في شتى النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تقود في النهاية إلى الواقعية الرقمية التي، للأسف، مازالت مفقودة أو ضائعة في ركام التكرار!
لسنا هنا بصدد التقييم، ولكن للتأكيد على أن نهج العمل الذي تم اعتناقه والتخندق في ثنايا تشعباته الاستثمارية والتنموية والتشاركية، وغير ذلك من المصطلحات والعناوين التي أطلقت لتكون بوابة عبور نحو مراحل قادمة، زاد من التحديات والتعقيدات التي أتاحت الفرصة لاقتناص الغنائم؛ وبدلاً من حلحلة وتفكيك منظومات العمل المؤسساتي الفاسدة والعاجزة، تم تكريس الفكر النفعي والاتكالي الذي استسهل استراتيجية “التمرير” على حساب التدقيق والمحاسبة؛ وهذا ما بدا واضحاً في تلك الملفات التي يشوبها الخلل في عدد من المؤسسات الخدمية كـ “حماية المستهلك”، أو في المحافظات والوحدات الإدارية، وغيرها.
وما يوجع أكثر أن يثقل الأداء ونهج العمل الحكومي بخطوات لم تنج من الفهم الخاطئ لكيفية تنفيذ الكثير من القرارات المدرجة ضمن مشروع الإصلاح الإداري نتيجة لمصفوفات ورقية لم تستطع الولوج إلى الواقع، أو حتى مقاربة التغيير في المنظومة الإدارية، سواء من ناحية الممارسة أو الفكر، حيث اختزل مفهوم عمل الجهة المعنية باستراتيجية التمرير من الورق إلى الورق، إلى جانب الخلط المتعمد لأوراق الأولويات.
باختصار المشكلة ليست في أرقام يتم استدراجها قسراً إلى خانات القيمة المضافة، بل في منظومة عمل استسهلت رمي المسؤولية في سلة المواطن دون الاعتراف بأنها فقدت المعايير والمقاييس الصحيحة في منظومة عملها، وتشتت قرارها بين رغبات المكاتب (..)؟!
بشير فرزان