هل يساهم “كوفيد 19” في بناء نظام دولي جديد ..؟
ريا خوري
لأوَّل مرَّة في التاريخ يتمّ اعتقال أكثر من نصف سكان العالم في منازلهم نتيجة انتشار وباء كوفيد 19 (كورونا)، ولأوَّل مرة تنشغل الدول والحكومات ووسائل الإعلام بهذا الحدث العالمي، الذي كان له تأثير كبير على أصحاب الشأن من مفكرين وباحثين وعلماء اجتماع وعلماء نفس واقتصاد وسياسة، خلال تلك المدة التي ظهر فيها الفيروس، والذي فرض على العالم طرح العديد من الأسئلة المحيِّرة، وتساؤلات استفهام عن ماهية الحدث، لأنَّه على ما يبدو له تجليات كبرى وتحوُّل نوعي أو هو محطة كبرى.
إنَّ تداعيات انتشار فيروس كوفيد 19 (كورونا) المستجد لم تتوقف عند القطاع الصحي فقط، في شكله الوطني داخل كل دولة وكل حكومة على حده، أو لجهة اعتباراته الكبيرة التي أصابت العالم، بل امتدت لتشمل جميع القضايا الأساسية والبنيوية في النظام الدولي، حيث ظهرت في دائرة المعركة العالمية للحدّ من انتشار هذا الفيروس الخطير جداً، وبدأت معارك واتهامات بين الدول المؤثرة في النظام الدولي بشكلٍ عام، والصين والولايات المتحدة الأمريكية بشكلٍ خاص، لكن كيف يمكننا الحصول على إجابة قاطعة مقنعة عن سؤال الماهية المتعلق بالحدث الكوني، وما هي المعايير التي يمكن من خلالها أن نرتكز من أجل تفنيد وتصنيف مفاعيله وتداعياته على مستقبل النظام الدولي؟.
إنَّ كل المظاهر والتجليات الرئيسية لهذا الحدث العالمي تشير إلى أنه حدث تاريخي يشهده القرن الحادي والعشرون، يترك آثاره على معظم بلاد العالم، بل يُعدّ أوَّل حدث في التاريخ يعتقل أكثر من نصف سكان العالم في بيوتهم، وأماكن سكناهم، ويفرض حظراً عالمياً على الأفراد ويحدّ من حقوقهم الشخصية، ويمنع السفر والتنقل بسبب إغلاق المطارات والموانئ والحدود، وبالتالي بدء دوامة جديدة وحزمة من التساؤلات، خاصة وأنَّ كلّ المظاهر الأساسية لهذا الحدث تشير إلى أنَّه أوَّل حدث عالمي شغل دوائر ومؤسسات الحكومات والدول كلها، وكذلك في الميديا، وبالتالي فإنه من الطبيعي أن نتساءل حول مدى تأثيراته المستقبلية على الأطر الأممية للتعاون الواسع بين دول العالم كلها، بما في ذلك أطر التعاون السياسي الأممية أو الثنائية.
من هنا يمكن أن تكون المقاربة كبرى ورئيسية، ويمكن في الآن ذاته أن تكون محطّ اتفاق بين المشتغلين في حقل علم الاجتماع السياسي، وهو ما يمكن أن نطلق عليه اسم (نهاية الحرب الباردة) التي امتدت طيلة سنوات عدة، أنهت عقوداً من نظام القطبين، الذي سيطر على العالم وقاده بين عامي 1945 منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى عام 1990 الذي تزامن مع انهيار الاتحاد السوفييتي، وما تخلّل تلك الأعوام من إنجاز تأسيس الأمم المتحدة.
جميعنا يعلم أنّه مع انتهاء مفاعيل النظام الدولي كثُرت الأسئلة، ولكن السؤال المهم في الوقت الراهن هو: هل سيساهم الحدث الراهن (انتشار فيروس كوفيد 19 كورونا) في بناء نظام دولي جديد؟ أم سيبقى الحال على ما هو عليه دون تغيير مع غياب التوافقات على إدارة العالم؟. لقد كشفت ردود الأفعال، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، غياب الثقة لدى العديد من الأطراف المرتبطين بالمنظمات الدولية الأممية، وكان آخرها قرار الولايات المتحدة بتجميد تمويلها لمنظمة الصحة العالمية، وهي منظمة مهمة جداً في العالم، لأن من شأن تجميد هذا التمويل أن يترك آثاراً سلبية خطيرة تصل إلى مرحلة الكارثية على عمل المنظمة، ومن الصعب أن يتمّ تعويضه بسهولة. وهذا يعني بكل بساطة في حال استمرار موقف الولايات المتحدة على حاله، توقف الكثير من الأعمال المهمّة والأنشطة الكبرى، بما فيها المرتبطة بدعم المؤسسات الصحية في الدول النامية الفقيرة والدول شديدة الفقر. وإذا تابعنا ردود الأفعال الغربية تجاه قرار الولايات المتحدة الأخير، نجدها كلها انتقادات خجولة، ما يؤكد على وجود استياء غربي واضح من المنظمة، وهو الأمر الذي يمكن تقديره وفهمه على خلفية دخول أكثر المنظمات الدولية في حالة من البيروقراطية المقيتة، وعدم تمكنها من تحقيق الأهداف التي تأسّست من أجلها وخطة تنفيذ تلك الأهداف.
من وجهة نظرنا نرى أنَّ التحوُّل النوعي في النظام الدولي كان في العام 1990 عندما تمّ الإعلان رسمياً عن تفكيك الاتحاد السوفييتي السابق. لكن هذا النظام العالمي الجديد لم يفضِ إلى وجود نظام دولي جديد واضح المعالم، من حيث القيادة ومراكز اتخاذ القرار، ومن حيث التوافق على تقاسم الأدوار في سوق العمل الدولي، لكنه أدى إلى فتح المجال واسعاً بشكلٍ سريع ومتسارع، ونشوء أشكال اقتصادية متعددة، لا يمكن التحكُّم بمقدراتها سياسياً، مثل قطاع المضاربات المالية والبورصة، والشركات عابرة القوميات والشركات عابرة القارات، وسطوة الكارتيلات الاقتصادية، ومجمّعات الصناعات الحربية، ومعظمها غير معنيّ بضرورات التوافق السياسي بين البلدان والحكومات، وهذا ما ساهم بالفعل في تعميق حدَّة الصراعات والنزاعات مع غياب أية قوة لحسمها من قِبَل أي طرف من الأطراف.
هل يمكن فعلياً الاستغناء عن المنظمات الدولية؟ أو التعبيرات الكبرى للعولمة وتداعياتها، مثل منظمة التجارة العالمية؟ أو هل يمكن تفكيك صرح مهم جداً مثل منظمة الصحة العالمية؟ وهل يمكن وقف سيل الرأسمال المالي الذي يصل في الكثير من الأحيان إلى التضخم، مثلما تقوم به البورصة والمضاربات المالية وغيرها؟.
من المؤكد أنه لا يمكن إعادة عقارب الساعة العالمية إلى الوراء، كما أنَّ التداعيات العديدة الناجمة عن انتشار فيروس كوفيد 19 (كورونا) المستجد، لا يمكن أن تؤدي إلى تحوُّل نوعي في النظام الدولي، لكنَّها بالتأكيد ليست محطة عادية في تاريخ هذا النظام، بل هي محطة ستعمل عل تسريع الكشف عن مستويات الصراع بين اللاعبين الكبار على اختلاف مشاربهم السياسية والاقتصادية، وستبرز الحاجة الضرورية إلى إعادة النظر في طبيعة عمل المؤسسات الدولية، ومن الممكن إعادة هيكلة بعضها من جديد، مع العمل الجاد لتغيير قواعد اللعبة، التي يُطلَق عليها (سوق العمل الدولي).