لودفيك “لطيف”
حسن حميد
الآن، أذكر لودفيك تماماً، بطلته المهيبة، وشعره الطويل، وقامته العالية، وخجله العميم داخل الصف وخارجه، كنا في بداية تفتح وعينا طلاباً في المدرسة الثانوية على التاريخ الوطني والقومي والإنساني، وكان لودفيك معنا في كل شيء، بل كان من أكثرنا حماسة للتاريخ وأحداثه، كان في مقدمتنا للحديث والتظاهر وترديد الهتافات في المناسبات الوطنية والقومية والإنسانية، من 6 أيار عيد الشهداء إلى وعد بلفور إلى مجزرة دير ياسين ونكبة فلسطين إلى عيد الجلاء، إلى ثورة تموز بمصر إلى استقلال الجزائر إلى 8 آذار.. إلخ، ولم نكن نعرف شيئاً عن المأساة الأرمنية، لودفيك هو من عرفنا بها، وهو من جعلنا نبكي وهو يقص علينا ما حدث للشعب الأرمني من مجازر مهولة، مثلما جعلناه يبكي ونحن نتحدث عن المآسي التي عرفها أهلنا في زمن الاحتلالين العثماني والفرنسي، وما عرفه أهل فلسطين في زمن الاحتلالين الإنكليزي والصهيوني، قال لودفيك بألم: قتل العثمانيون أجدادي بوحشية لا مثيل لها لأنهم أرمن نادوا بالشعار الأزلي الخالد: بلادي.. بلادي، فجمعوهم في الساحات، ساحات المدن والقرى وقتلوهم بصور مختلفة.. حرقوهم، وأعدموهم، ورموهم بالرصاص، وسجنوهم حتى ماتوا جوعاً، أحرقوا البيوت الأرمنية في المدن والقرى بما فيها، ولاسيما العجائز والأطفال، فتعالت رائحة شواء اللحم الأدمي في الأجواء، وطاردوا من هرب منهم إلى هنا، إلى سورية لكي يقتلوهم أيضاً، لقد مشى الأجداد، صغاراً وكباراً، نساءً ورجالاً، بمحاذاة نهر الفرات العظيم، آلاف الكيلومترات في الحر الشديد، وهم جوعى ومرضى، وقد أدركتهم فرق انكشارية العثمانيين مرات ومرات.. وقتلوهم في مجازر عدة، واصطبغت مياه نهر الفرات بدمهم مسافات بعيدة، حتى ليظن الناظر إليه أن ماءه تحوّل إلى دم، آلاف من الأجداد أمعنوا في الهروب من انكشارية العثمانيين نحو المغر والكهوف والحرش والأودية طلباً للنجاة، لكن المتوحشين العثمانيين لحقوا بهم وأدركوهم وحرقوهم داخل الأمكنة التي لاذوا بها، حتى القرى السورية التي هبّت لنجدتهم واستقبالهم وحمايتهم حرقوها بوحشية وغطرسة، وبذلك امتدت المقابر الأرمنية من أعالي نهر الفرات إلى مدينة دير الزور، وقد استمرت الممارسات العثمانية الدموية ضد الأرمن سنوات، فقد قتلوا الأطفال في المدارس، وورش العمل، واغتصبوا النساء في البيوت والشوارع، وسرقوا الأموال الأرمنية، وصادروا كل ما كان يمتلكه الأرمن، ولاحقوهم في مدن الرقة ودير الزور وحلب والقامشلي، وبيروت، ومنعوا الحديث والكتابة باللغة الأرمنية، واعتدوا على التجار الأرمن وأصحاب الحرف، ونهبوا أملاكهم، وأخذوا أصحاب الأيدي الحاذقة ليعملوا لصالح العثمانيين من دون أن يأخذوا أي أجر، فقد كان أجرهم هو السكوت على وجودهم آمنين من بطش فرق الانكشارية.
كان لودفيك يروي تاريخ أجداده وهو يبكي، وكنا نحن من حوله نبكي لأن ما فعله العثمانيون بهم فعلوه بأجدادنا أيضاً، لقد أوقفوا تاريخنا أربعة قرون، وحالوا بيننا وبين العمران والتقدم حين فرضوا سياسة التجهيل.
حين انتقل لودفيك مع أهله إلى مدينة حلب، لم تنقطع أخباره عنا، فقد كانت الرسائل المتبادلة فيما بيننا تنقل إليه أخبارنا، وتنقل إلينا أخباره، فنحن وزعتنا الشهادة الثانوية التي ظفرنا بها على الجامعات والمعاهد والجيش والشرطة والوظائف الإدارية، أما لودفيك الذي ظفر بالشهادة الثانوية أيضاً، فقد ورث ورشة الميكانيكا عن أبيه وقرّ فيها، وهكذا عرف كلّ منا مكان رفيقه وعمله، وبعد مرور سنوات، انقطعت أخبار لودفيك بانقطاع رسائله، لكن اسمه عاد إلى أذهاننا، مثلما عادت صورته لتشرق في نفوسنا، عندما حدثت مجزرة صبرا وشاتيلا، فقد كان لودفيك من ضحاياها، هو وأسرته الصغيرة، سميرة زوجته الفلسطينية، وابنته ميرنا بنت السنوات الثلاث، وعرفنا أنه ذهب إلى صبرا وشاتيلا وبنى كوخاً، سمّاه كوخ الميكانيكا، وعمل فيه كي يعلّم الأطفال الفلسطينيين علم الميكانيكا.
الآن، أذكر لودفيك الذي ناله البطش الدمومي الصهيوني في مذبحة صبرا وشاتيلا فانحني لذكراه وصدقه وإخلاصه، وأذكر أجداده الذين نالهم البطش الدموي العثماني على ضفاف الفرات العظيم فانحني لذكراهم وصدقهم وإخلاصهم لأنهم جميعاً كتبوا بأرواحهم معاني الفداء والتضحية والنبل من أجل أن يظلّ هُتاف: بلادي بلادي عالياً خفّاقاً في دنيا رحيبة اسمها.. الوطن!
Hasanhamid55@ yahoo.com