السادس من أيار : مسيرة التضحية مستمرة
إبراهيم أحمد
تاريخ الشهادة يتواصل صفحات مضيئة يكتب فيها السوريون تاريخهم الناصع على امتداد العصور. ففي السادس من أيار عام 1916 تحدى المناضلون العرب الأحرار مشانق السّفاح العثماني جمال باشا فانتصروا لوطنهم ، وهدير صيحاتهم الأخيرة ما زالت لعنة تلاحق صعلوك بني عثمان السّفاح الانكشاري أردوغان حتى اليوم.
وإذا كان شعبنا الأبي يستذكر في السادس من أيار من كل عام قيم الشهادة والتضحية والفداء ، وقيمة الشهداء وتقديسهم ، فإن هذه الذكرى تتزامن هذا العام مع قيام بواسل جيشنا العظيم بتسطير الفصل الأخير من القضاء على العصابات الإرهابية التكفيرية بعد تقديم الآلاف من الأبطال لأرواحهم الطاهرة رخيصة في سبيل عزة وطنهم وكرامته وسيادته ضد أعتى الحروب الكونية – وبكل أذرعها الإرهابية الأصيلة والوكيلة – التي خاضها هذا الشعب المناضل وجيشه الباسل .
استلهم الشعب السوري خلال سنوات الأزمة المعاني السامية لقيم الشهادة والشهداء وكرّسها في دفاعه عن وطنه ، حيث قدّم نموذجاً في التضحية والتنافس على الشهادة ، لأننا أمة آمنت بأن الشهادة حياة وخلود، فتاريخ الشهادة يتواصل صفحات مضيئة يكتب فيها السوريون تاريخهم الناصع على امتداد العصور، ويبقى السادس من أيار محطة نستذكر فيه قوافل الشهداء التي ما فتئت تتوالى، فإذا كان شهداء السادس من أيار الذين نحتفل بذكراهم اليوم قد زيّنوا ساحة المرجة, فإن هناك شهداء كُثرا قبل هذا التاريخ وشهداء كُثرا بعد هذا التاريخ زيّنوا ساحات سورية كلها، وكما نصب جمال باشا السفاح أعواد المشانق في ساحة المرجة وأعدم كوكبة من الوطنيين السوريين ، فإن حفيده أردوغان باشا السفاح ، وبعد نحو 100 عام يصب جام حقده الدفين على السوريين، فقوى الاستعمار التي قاومها الشعب السوري طوال تاريخه النضالي هي نفسها قوى الإرهاب العالمي التي تعيث سرقة وخراباً وتدميراً في سورية و تفرض عليها حصاراً اقتصاديا جائرا هذه الأيام.
لقد كان شهداء السادس من أيار عام 1916 صرخة مدوية في وجه سياسة التتريك والطغيان الذي جثم على صدر الأمة العربية ردحاً من الزمن ، إذ شكّلت تضحياتهم ومواجهاتهم الموت بشجاعة رابطا بين ماضي الأمة وحاضرها ، ورسّخ ذلك الاستشهاد في نفوس أبناء الأمة حتمية الانتصار ، ولاسيما أن تاريخ أمتنا العربية مكتوب بدماء الشهداء التي ما تزال متواصلة حتى الآن.
سياسة التتريك
مارس العثمانيون خلال سيطرتهم الطويلة على الوطن العربي التي امتدت لنحو أربعة قرون تقريباً أبشع أنواع السياسات، فقد تعرّض العرب لأبشع أنواع الاستغلال والفقر والجوع والقهر والتخلف والجهل والاستبداد والاضطهاد ، حيث عملت السلطات العثمانية على تذويب الشخصية القومية للأمة العربية من خلال تعميم اللغة التركية وطبع الحياة العربية بالطابع الخاص للسلطنة العثمانية، كما زادت ممارسات الاستبداد والقمع شراسة بعد سيطرة الاتحاديين على مقاليد الحكم في السلطنة العثمانية، وشرعت القوى العسكرية التركية التي دخلت الحرب ضد الانكليز في نهب السكان الآمنين تحت غطاء الضرورة العسكرية، فجرت مصادرة المواد الغذائية والماشية والحبوب العائدة للفلاحين وقطعت الأشجار المثمرة ، واستُخدم العمال بالسخرة وانتزع آلاف الفلاحين من أراضيهم وألزموا بالأعمال العسكرية ، وبذلك هدد الجوع سكان سورية ولبنان ، وكما هو معروف كان الحكم العثماني من أكثر أشكال الاستعمار تخلفاً وجهلاً في العصور الحديثة إذ أقاموا نظام حكمهم في الوطن العربي على الاحتفاظ بنظام إقطاعي متخلف ونظام الولاة الذين تم تعيينهم من قبل الأستانة, حيث كثرت الضرائب والظلم وانتشر الجهل والتخلف وساءت أحوال البلاد.
اليقظة العربية
هذه الممارسات الاستبدادية ضد العرب هي التي حرّكت قادة الوعي العربي المتنورين كي يعملوا من أجل إنقاذ بلادهم والحفاظ على هويتهم القومية وبدأت حركة تنوير ويقظة قومية تنتشر في المنطقة العربية ، وهذا ما جعل الاحتلال العثماني يشعر بالقلق والخوف من تأثير هذه الأفكار التحررية نواة النهوض التحرري القومي العربي ، وبدأ العثمانيون يرتعدون من جراء هذه اليقظة القومية خشية على حكمهم الذي كان منبوذاً في الأقطار العربية . وهكذا فقد هبّ العرب في كل مكان للوقوف في وجه سياسة التتريك التي شكّلت تهديداً للهوية العربية وللوجود العربي وللذات العربية، وبدأ العرب يطالبون باللامركزية وتعريب الدوائر في الدول العربية وتمثيلهم في المجلس النيابي تمثيلاً صحيحاً الأمر الذي أثار غضب الاتحاديين فرفضوها رفضاً قاطعاً وزجّوا بالعرب في السجون والمعتقلات . وعلى الرغم من سياسة القمع هذه إلا أن طليعة من المفكرين والمثقفين العرب تنادوا إلى تشكيل جمعيات وأحزاب مناهضة للاحتلال العثماني دفاعاً عن الشخصية العربية وعن الهوية القومية، وهكذا فقد وُلدت الحركة القومية العربية الأولى حيث تشكّلت الجمعية السورية– اللبنانية والتي تعتبر أول حركة سياسية منظمة ضد الاحتلال العثماني وطالبت بالحرية وبالحكم الذاتي وباللامركزية في بلاد الشام. وتتالى بعد ذلك تأسيس الجمعيات المناهضة للحكم العثماني. ومع بداية الحرب العالمية الأولى زاد الحكم العثماني من إجراءات التعسف في الأقطار العربية في محاولة لإخماد يقظتها القومية الناشئة ، كما رفضت المطالب العربية مقررات مؤتمر باريس العربي عام 1913 وتم تعيين جمال باشا السفاح قائداً للجيش الرابع وتم إعطاؤه صلاحيات واسعة فأعلن الأحكام العرفية في الولايات العربية وألغى مجالس الولايات وانتهج سياسة التتريك والقمع وكّم الأفواه الأمر الذي دفع بالحركات القومية العربية لأن تُصعّد تحديها للاحتلال العثماني.
قافلة شهداء أيار
بعد أن منحت السلطات العثمانية جمال باشا السفاح المعروف بدمويته وساديته صلاحيات واسعة للضغط على الديوان العرفي كي يُسّرع إقرار حكم الإعدام بحق كوكبة من أحرار العرب، دفع السفاح العثماني قافلتين من الأبطال العرب إلى أعواد المشانق وجرى تنفيذ حكم الإعدام بالقافلة الأولى في ساحة البرج في بيروت في شهر آب 1915 ثم تبعه حكم الإعدام بالقافلة الثانية في ساحة المرجة بدمشق يوم السادس من أيار عام 1916 فكان هؤلاء الشهداء الكوكبة التي أضاءت الطريق أمام عهد جديد في مقاومة المستعمرين. لقد تسبّبت هذه الجريمة البشعة التي اقترفها جمال باشا السفاح في إحداث جرح بليغ وأدت هذه الجريمة النكراء إلى التعجيل بقيام الثورة العربية الكبرى وطرد الطورانيين من أرض العرب لتنتهي أربعة قرون من الاحتلال العثماني البغيض الذي كانت سنواته الأكثر ظلمة وحلكة في حياة الأمة العربية.
تكريس قيمة الشهادة
أرسى شهداء السادس من أيار اللبنة الأولى لعصر الشهادة ،إذ تحوّلت هذه الشهادة إلى قوة دفع رسّخت في النفوس حتمية الانتصار مهما كان حجم التضحيات ، وخّط شهداء السادس من أيار المقدمة لسلسلة طويلة من أعمال الشهادة خلّدتها ذاكرة الأجيال لاحقاً لتصبح قيم الشهادة عميقة الجذور في وجدان شعبنا ولتكون ( الشهادة هي قيمة القيم وذمة الذمم ) فالشهادة هي تجاوز خلاّق لحالة الضعف الفردي إلى حالة القوة في الأمة وتجاوز الأدنى إلى الأسمى ، تجاوز يصنعه الشهداء الذين قال فيهم الرئيس الراحل حافظ الأسد : ” الشهداء أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر ” . وسورية اليوم وهي تحيي ذكرى شهداء السادس من أيار ، لا يكاد يمر يوم دون أن تودع كوكبة من شهدائها الأبطال دفاعاً عن ترابها واستقلالها ، وكأن قدر سورية أن يُجبل ترابها مجدداً بدم الشهداء .المجد والخلود لشهداء الوطن ، وتحية الإجلال والإكبار لبواسل جيشنا العظيم حماة الأرض والعرض وهم يخطون الفصل الأخير في النصر على الإرهاب بقيادة السيد الرئيس بشار الأسد .