الخسائر الاقتصادية المحتملة ترفع العجز العام إلى ما يقارب الـ 1500 مليار ليرة!
لا شك بأن انتشار فيروس كورونا وما فرضه من تطبيق الإجراءات الاحترازية التي شلّت حركة التجارة والإنتاج، ستتمخض عنه آثار اقتصادية سيئة على الاقتصاد العالمي، إذ رجح الخبراء بدء ظهور مؤشرات ركود اقتصادي خطير، بالتالي فإن السؤال الذي يُطرح هنا: ما مقدار تأثر الاقتصاد السوري بأزمة كورونا ومدى احتمالية تجاوز آثارها السلبية؟ إذ أن تعطل المنشآت الاقتصادية والإنتاجية لفترة تقارب الشهرين دفع بخبراء الاقتصاد إلى توقع ارتفاع عجز الموازنة العامة بنحو 500 مليار ليرة سورية ليصبح مجمل العجز للعام الحالي نحو 1500 مليار، ومنهم من تجاوز الرقم بمقدار 200 مليار بإضافة فوائد سندات الخزينة وتعطّل المشاريع الاستثمارية التي رصدت لها عملية التمويل، وبالتالي فإن الحكومة أمام تحدٍّ تجاوز الآثار السلبية بآليات مجدية تساعد في ترميم العجز الحاصل وتدعم الاقتصاد بشكل سريع.
خسائر مرتقبة
لا يمكن رصد الخسائر على الاقتصاد السوري في الوقت الراهن سوى ما يخصّ إيرادات الخزينة العامة من الرسوم والضرائب، حيث كان من المتوقع أن تحقّق الخزينة العامة نحو 83 مليار ليرة إيرادات من الرسوم والضرائب شهرياً حسب وزارة المالية، ولكن تأجيل عملية التكليف الضريبي وتوقف منشآت عدة عن العمل أو تراجع عملها الاقتصادي أو الخدمي ساهم في تأخر تحصيل المبلغ، تضاف إليه خسائر زيادة الإنفاق العام لتمويل الأعمال الصحية والطبية المرافقة للإجراءات الاحترازية من جهة، وتقديم الإعانات التي تقدمها الحكومة للذين توقفت أعمالهم من جهة أخرى، أما خسائر الأرباح المتوقعة عن تشغيل القطاعات الإنتاجية والصناعية والخدمية خلال فترة الحجر المنزلي فتبدو بعيدة عن التقديرات وبحاجة إلى حسابات دقيقة، ولاسيما أن الفترة الماضية كانت تحمل مؤشرات البدء بانتعاش اقتصادي عقب جملة من القرارات والتسهيلات المقدّمة للصناعيين والمنتجين، الأمر الذي يضاعف فاتورة الخسائر ويؤخّر عودة الاقتصاد الوطني إلى مرحلة ما قبل كورونا على الأقل.
أكثر إلحاحاً..
وعلى الرغم من كتلة الخسائر المرتقبة، إلا أن الحلول المنتظرة من الحكومة قد تكون أكثر جدوى لجهة إعادة تفعيل الاقتصاد وتسريع عجلة دورانه، بدلاً من الاعتماد على مبادرات القطاع الخاص، ولاسيما أنه ينتهز الفرص للنأي بنفسه عن أمراض الاقتصاد الوطني ويكسب الرهان في مضاعفة أرباحه في الظروف كلها. وبحسب الدكتور علي كنعان فإن أولى الخطوات التي من شأنها تفعيل الإنتاج المحلي هي تخفيض قيمة الضرائب للمنتجين والحرفيين بحدود 17% وذلك بعد تقسيمها على مدى اثني عشر شهراً، مشيراً إلى أن الإنفاق العام أصبح ضرورة ملحة أكثر من الفترة السابقة كون الوضع الحالي فرض توقفاً للمنتجات والخدمات. وأكد كنعان أن المبادرات الفردية جيدة لكنها خجولة، لكن يبقى التعويل على دعم الدولة وتدخلها في الاقتصاد وإدارة المجتمع بشكل مباشر، وذلك بما يعكس قوتها وسلطتها على الحياة الاقتصادية من خلال منح استثناءات ومزايا من شأنها تشجيع المستثمرين ورؤوس الأموال للخوض في غمار الاستثمار السوري، وتفعيل القوانين المطلوبة التي تأخر إصدارها لمعالجة بعض النقاط التي تثير الالتباس في قواميس المستثمرين، كما اقترح منح إعانات مالية للأسر السورية مشيراً إلى أنه إذا قدّر عدد الأسر السورية بثلاثة ملايين أسرة فيفترض إعطاء كل أسرة مبلغ 100 ألف ليرة أي بما يعادل 300 مليار ليرة لضمان ثبات المجتمع من جهة وتفعيل حركة البيع والشراء في الأسواق الأمر الذي ينعش الصناعة المحلية.
بقعة ضوء
على الرغم من كتلة الخسائر المرتقبة، يبدو أن الأزمة تحمل في طياتها بعضاً من الإيجابية، فعلى سبيل المثال تطرّق الخبير الاقتصادي الدكتور هيثم عيسى إلى وفورات جاءت نتيجة تخفيض مستوى العمل في كثيرٍ من المؤسسات الحكومية ولاسيما الإدارية، الذي خفّض بالضرورة استهلاك المحروقات والطاقة اللازمة لنقل الموظفين ولتدفئة وتكييف المكاتب الإدارية، وكما نعلم فإن القطاع الحكومي الإداري يعاني من ارتفاع البطالة المقنّعة، وبالتالي لن يقابل هذا الأثر على تكاليف المحروقات والطاقة تراجع كبير في مستوى الإنتاجية في هذه القطاعات، كما يمكن ملاحظة أثر مماثل نجم عن تخفيض ساعات عمل بعض المهن التجارية في القطاع الخاص، فمن المعلوم أنّ فترة العمل كانت سابقاً تمتد حتى الساعة 10 ليلاً، لذلك أدى تقليص فترة عمل تلك المهن إلى انخفاض الطلب على الطاقة الكهربائية وتوفير تكلفة توليدها على الحكومة. وأشار عيسى إلى أنه ليس ضرورياً، سواء في فترات الأزمات وغيرها، أن تفتح جميع المحلات لساعات متأخرة، والدليل أنه في عدد من دول العالم ولاسيما المتقدمة منها تُغلق الأسواق بين الساعة 6 و8 مساءً باستثناء محلات الأغذية والمطاعم وما يماثلها وذلك في الحالات العادية. كما لفت إلى تحسّن مستوى الاهتمام بالنظافة الخاصة والعامة، حيث زادت الأُسر اهتمامها بهذا الجانب وازداد إنفاقها على نظافة الأفراد والبيوت وغير ذلك، إضافة لذلك تحسّن اهتمام الجهات العامة والخاصة بالنظافة، حيث لاحظنا جميعاً حملات تعقيم المدارس وأماكن العمل والشوارع والمرافق العامة.. كل هذه الإجراءات على مختلف المستويات سيكون لها آثار إيجابية على صحة الأفراد والصحة العامة، وتكون هذه الآثار أكبر إذا كانت مستدامة أي أصبحت جزءاً من سلوك الأفراد والمؤسسات واستمرت بعد أزمة كورونا، فالإنفاق الصحي الوقائي مع الإنفاق على النظافة الشخصية والعامة يقلّل من مخاطر الإصابة بكثيرٍ من الأمراض مما يخفّض الإنفاق الصحي العلاجي.
من المؤكد أن الاقتصاد الوطني سيخسر من حيث تراجع حجم الإنتاج والناتج المحلي ومن حيث زيادة الإنفاق الحكومي مقابل تراجع بعض إيراداته، ولاسيما الضريبية، ما سيزيد من حجم العجز في الموازنة الحكومية، إذ سنواجه اقتصادياً على المستوى الكلي مشكلة ثنائية القطب (تراجع الناتج المحلي، وازدياد عجز الموازنة الحكومية) ويجب أن نخطّط بدقة كيفية العمل على الجبهتين معاً.
ولا شك بأن الأولوية الأولى يجب أن تكون لتحفيز عجلة الإنتاج الحقيقي الزراعي والصناعي وتسريعها بحيث تؤدي زيادة الإنتاج ما أمكن إلى تخفيض تكاليف الاستيراد من الخارج، ولاسيما من السلع التي تموّل بسعر صرف مدعوم من الحكومة وفي الوقت نفسه خلق فائض إنتاج يمكن تصديره إلى الدول الأخرى. ومن الضروري أن يتمّ ذلك باتباع آلية التفكير خارج الصندوق من أجل التوصل إلى حلول غير نمطية، وقد يعتقد البعض أنه من الصعب تحقيق ذلك، إلا أن مراجعة آلية التعاطي مع أزمة كورونا منذ بدايتها والاستجابة الحكومية التي تضمنت قائمة طويلة من الإجراءات السريعة وغير التقليدية، هي ذات الآلية التي نحتاج إليها.
فاتن شنان