معضلة الدَّين القومي الأمريكي ..
إعداد: علاء العطار
مرة أخرى يدق ناقوس الخطر في الولايات المتحدة منذراً بارتفاع الدين القومي الأمريكي إلى مستويات غير مسبوقة، ومن المتوقع أن يؤدي الإنفاق الكبير لمكافحة جائحة كورونا إلى ارتفاع عجز الميزانية الأمريكية إلى مستويات لم تشهدها البلاد منذ الحرب العالمية الثانية، وتأتي هذه الزيادة بعد سنوات من الديون المتصاعدة، التي بلغ مجموعها نحو 17 تريليون دولار.
ويبين تشريع الميزانية الرئيسي الذي وقعه ترامب، إلى جانب النمو المستمر للاستحقاقات وأسعار الفائدة المرتفعة، أن الدين في طريقه نحو التضاعف بحلول عام 2029، ليقترب من حجم الاقتصاد الأمريكي بأكمله، وبإضافة مكوّن الجائحة إلى هذه الوصفة، سيقع ذلك بوقت أقرب من المتصور، ويقول الخبراء الاقتصاديون إن هذا من شأنه أن يعرض البلاد لجملة من المخاطر، وسيتطلب الحد من آثاره اتخاذ قرارات صعبة لكبح نفقة الاستحقاقات أو زيادة الضرائب أو كليهما.
كيف وصل الدين إلى وضعه الحالي؟
لطالما عانت الولايات المتحدة من عجز مالي بصورة شبه سنوية، إذ إنها تنفق أكثر مما تحصّله وزارة الخزانة، وتُعدُّ الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، التي برزت خلالها الولايات المتحدة كقوة عظمى، نقطة انطلاق جيدة لدراسة مستويات الديون الحديثة، أدى الإنفاق على الدفاع خلال الحرب إلى استدانة لا سابق لها، إذ ارتفع الدين إلى أكثر من 100% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 1946، (يقاس العجز سنوياً، بينما يدل الدين على مبلغ متراكم تدين به الحكومة، ويعد العجز والدين، باعتبارهما نسبة من الناتج المحلي الإجمالي، طريقة قياسية في مقارنة الإنفاق بمرور الوقت، لأنه يتعدَّل تلقائياً تبعاً للتضخم وارتفاع عدد السكان والتغيرات في دخل الفرد).
وعلى مدى السنوات الثلاثين التالية، أدى النمو الاقتصادي المستدام إلى خفض الدين تدريجياً، بالرغم من الحروب التي شنتها الولايات المتحدة في كوريا وفيتنام وتأسيس برنامجي الرعاية الطبية لكبار السن والرعاية الطبية للفقراء، وعموماً، انخفض الدين في عام 1974 إلى حدود 24 بالمئة.
وابتداء من ثمانينيات القرن الماضي، أدى الإنفاق المتصاعد على الدفاع والتخفيضات الضريبية الكبيرة إلى ارتفاع الدين مجدداً، وخلال التسعينيات، أدى خليط من الزيادات الضريبية وتخفيض الإنفاق على الدفاع والازدهار الاقتصادي إلى خفض الدين، ما أدى إلى فوائض في الميزانية لأربع سنوات متتالية ابتداء من عام 1998.
وخيم العجز مجدداً في عهد جورج دبليو بوش، إذ شهدت هذه الحقبة تخفيضات في الضرائب وإنفاقاً حربياً في أفغانستان والعراق واستحقاقات كبيرة جديدة، ليبلغ العجز السنوي مستويات قياسية – ما يربو عن تريليون دولار – في عهد باراك أوباما، الذي سار على خطى إدارة بوش المتمثلة ببرنامج الإنقاذ المصرفي ومنح مليارات الدولارات كحافز مالي، وكان كل ذلك في سبيل مواجهة الركود العظيم.
كيف ستؤثر الجائحة على الدين؟
تسلك الجائحة السبيل المؤدي إلى زيادة الدين بفعل الضرر الاقتصادي الذي تسببت به وكذلك بسبب التدابير المتخذة للتصدي لها، يقدر مكتب الموازنة في الكونغرس أن هذه العوامل ستوصل العجز الفيدرالي إلى 3.7 تريليون دولار في عام 2020، أي ما يربو عن 18% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أعلى مستوى منذ الحرب العالمية الثانية، ويتوقع أن يتجاوز مجموع الدين العام حجم الاقتصاد الأمريكي هذا العام، وهي المرة الأولى منذ الأربعينيات، وتُشير توقعات مستقلة إلى أن الدين العام سيتجاوز ذلك الرقم بحلول عام 2023، أي 106% من الناتج المحلي الإجمالي.
تعد إجراءات الإنقاذ الاقتصادي المحرك الرئيسي لهذا الارتفاع، ويقدر مكتب الموازنة في الكونغرس أن قانون المساعدة والإغاثة والأمن الاقتصادي في ضوء فيروس كورونا، وهو أكبر مشروع قانون إنقاذ تم تمريره حتى اليوم، سيضيف 1.8 تريليون دولار على العجز الفيدرالي على مدى الأعوام العشرة المقبلة، علماً أن معظمه سيضاف هذا العام، وفي أواخر نيسان من عام 2020، وافق الكونغرس على إضافة نحو 500 مليار دولار إلى الإنفاق لمنح مزيد من الأموال للشركات الصغيرة والمستشفيات.
ويزيد الركود الاقتصادي من مستويات الدين من خلال تقليل الإيرادات الضريبية وزيادة المبالغ التي تنفقها الحكومة لمعالجة البطالة وغيرها من المشاكل، وتشير بعض التقديرات إلى ارتفاع الدين إلى 117% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2025 في حال كان الانتعاش بطيئاً.
كيف يبدو ما بقي من الموازنة؟
بصرف النظر عن الإنفاق في حالة الطوارئ الحالية، تتجه معظم الموازنة الفيدرالية نحو برامج الاستحقاق، كالضمان الاجتماعي والرعاية الصحية للمسنين والفقراء، وتعد الاستحقاقات نقيض الإنفاق التقديري، الذي يجب أن يأذن به الكونغرس كل عام خلال عملية تخصيص الاعتمادات، أما الاستحقاقات فهي إنفاق إلزامي، وتلقائي ما لم يغير الكونغرس قانونها الأساسي، ففي السنة المالية السابقة، أنفق 30% من الإنفاق الفيدرالي على برامج تقديرية، حيث اقتطع الإنفاق على الدفاع نصفه تقريباً.
ظل العجز الفيدرالي والدين يرتفعان لسنوات، وخلال السنة المالية التي انتهت في 30 أيلول عام 2019، اتسع عجز الموازنة للمرة الرابعة على التوالي، وأنفقت الحكومة الفيدرالية 4.4 تريليون دولار بينما حصّلت 3.5 تريليون دولار من العائدات فقط، تاركة عجزاً في الميزانية قدره 984 مليار دولار، أي أعلى بـ 26% من السنة السابقة لها.
وحتى قبل الجائحة، توقع مكتب الموازنة في الكونغرس أن العجز السنوي سيخترق حاجز التريليون دولار في عام 2020 ويبقى فوق هذا المستوى إلى أجل غير مسمى، وبحلول عام 2023، سيكون العجز قد ارتفع لمدة ثماني سنوات متتالية، وهي أطول مدة في تاريخ الولايات المتحدة.
في هذه الأثناء، بلغ الدين العام – وهو مقياس مقدار ما تدين به الحكومة للمستثمرين – 16.9 تريليون دولار في عام 2019، إذ تضاعف تقريباً منذ عام 2007، فارتفع من نحو 40% من الناتج المحلي الإجمالي إلى ما يقارب 80%، (وباحتساب الديون بين مؤسسات الحكومة، أو الديون المستحقة على وكالة حكومية لأخرى، يصل المجموع إلى أكثر من 22.9 تريليون دولار، أي أكثر من 120%) وقبل احتساب الإنفاق الحكومي على مكافحة فيروس كوفيد 19، كان من المتوقع أن يتضاعف الدين الأمريكي العام ليزيد عن 29 تريليون دولار على مدى العقد التالي.
ما هي المحركات الرئيسية للدين المستقبلي؟
لا تزال برامج الإنفاق الإلزامي المحركات الرئيسية، بمعنى الضمان الاجتماعي وبرنامجا الرعاية الصحية للمسنين والرعاية الصحية للفقراء، وتمثل تكاليفها حالياً 47% من مجموع الإنفاق الفيدرالي، ومن المتوقع أن ترتفع لتصبح نسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي.
وفي الوقت نفسه، من المتوقع أن ترتفع أقساط الفائدة على الدين، والتي تمثل الآن 8% من الموازنة، في حين يُتوقع انخفاض الإنفاق التقديري، بما في ذلك برامج كالدفاع والنقل، ليصبح نسبة مئوية من الموازنة.
كيف تؤثر مقاييس الموازنة الحديثة الأخرى في ذلك؟
وقع ترامب على تشريعات كثيرة ستؤثر في الدين، وأهمها مشروع قانون التخفيضات الضريبية والوظائف، الذي أصبح قانوناً في كانون الأول عام 2017، وهو أشمل تشريع للإصلاح الضريبي منذ ثلاثة عقود، ويدعي ترامب ومشرّعوه أن هذا القانون سيعزز نمو الاقتصاد بما يكفي لزيادة الإيرادات الحكومية وتحقيق التوازن في الميزانية، لكن العديد من الخبراء الاقتصاديين يشككون بهذا الادعاء.
ويقول مكتب الموازنة في الكونغرس إن القانون سيعزز الناتج المحلي الإجمالي السنوي بقرابة 1% على مدى السنين العشر المقبلة، لكنه سيزيد من عجز الميزانية السنوية ويضيف قرابة 1.8 تريليون دولار إلى الدين على مدى المدة نفسها، علاوة على ذلك، من المتوقع أن تنتهي صلاحية العديد من المُؤن بحلول عام 2025، لكن إن تم تجديدها، سيزداد الدين أكثر.
ومن المتوقع أن تؤدي صفقات الإنفاق التي أبرمت في عامي 2018 و2019 إلى زيادة العجز، إذ اتفق قادة الكونغرس في تموز عام 2019 على صفقة موازنة مدتها عامان زادت الإنفاق بمقدار 320 مليار دولار، ما زاد العجز بشكل أسرع مما كان متوقعاً في ظل الحالة الراهنة آنذاك.
الدين الأمريكي مقابل ديون الدول الأخرى
تعد نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة من بين أعلى المعدلات في العالم، إذ ليس أمام الولايات المتحدة في القائمة إلا البرتغال وإيطاليا واليونان واليابان.
وزادت جائحة كورونا من الاستدانة في جميع أنحاء العالم، وتوقع صندوق النقد الدولي في نيسان أن صافي الدين الحكومي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي سيرتفع من نحو 70% إلى أكثر من 85%، ومن بين الدول المتقدمة، يُتوقع أن يرتفع هذا الرقم من 77% إلى أكثر من 94%، مدفوعاً بزيادات بمعدل عشري في ديون كندا وفرنسا وإيطاليا واليابان وإسبانيا وبريطانيا والولايات المتحدة.
ما الذي يجعل الاستدانة الأمريكية مميزة؟
لطالما كانت الولايات المتحدة تتباهى بأنها أكبر اقتصاد في العالم، مع عدم وجود سجل بالتخلف عن سداد ديونها، وكانت تُعدّ بلد العملة الاحتياطية في العالم منذ الأربعينيات، لذلك يعتبر الدولار أكثر العملات المرغوبة في العالم.
وساعد ارتفاع الطلب على الدولار الولايات المتحدة في تدبير الموارد المالية لسداد ديونها، إذ وضع مستثمرون كُثر فرقَ قيمةٍ على الاحتفاظ بالأصول المحدد بالدولار منخفضة المخاطر مثل أذون وسندات الخزانة الأمريكية، (هذه السندان والأذون هي الأدوات المالية التي تصدرها حكومة الولايات المتحدة لتمويل إنفاقها)، وتعد مطالبة الدائنين الأجانب المنتظمة أحد العوامل التي ساعدت الولايات المتحدة على الاستدانة بأسعار فائدة منخفضة نسبياً.
من هم الدائنون؟
يشكل المستثمرون الذين يشترون سندات الخزانة الأمريكية بفترات استحقاق وأسعار فائدة مختلفة القسم الأكبر من ديون الولايات المتحدة، وهذا يشمل المستثمرين المحليين والأجانب، وكذلك الصناديق الحكومية والخاصة.
ويمتلك المستثمرون الأجانب، معظمهم حكومات، أكثر من 40% من مجموع الديون، حتى الآن أكبر دولتين من أصحاب سندات الخزانة هما الصين واليابان، اللتان تملك كل منهما أكثر من تريليون دولار، وخلال معظم سنين العقد الماضي، ظلت الصين أكبر دائن للولايات المتحدة، وبمعزل عن الصين واليابان، ليس هنالك بلد يمتلك أكثر من 500 مليار دولار.
وفي محاولة لمحاربة جائحة كورونا، رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي من شراء الديون الأمريكية بشكل كبير، إذ اشترى في أيام معدودات ما يشتريه عادة على مدى شهر، ونمت الميزانية العمومية للاحتياطي الفيدرالي لأكثر من تريليوني دولار منذ أوائل آذار عام 2020، والتزم المصرف المركزي الأمريكي بشراء عدد أصول لا محدود، فجدد ذلك مخاوف الاقتصاديين بشأن استقلالية بنك الاحتياطي الفيدرالي.
ما مدى جسامة ارتفاع الدين الأمريكي؟
أحيت الاستدانة الهائلة بسبب الجائحة الجدال بشأن الخطر الذي يمثله الدين الوطني الأمريكي للبلاد، ويتوقع بعض الاقتصاديين أن الولايات المتحدة ستعلق في مصيدة الديون، إذ يؤدي الدين المرتفع إلى تراجع النمو، الذي يؤدي بدوره إلى مزيد من الديون، ويقول آخرون إن البلاد تستطيع تحمل طباعة مزيد من الأموال، رغم أن ذلك يعني انخفاض قيمة الدولار أمام العملات الأخرى.
ويقول بعضهم إن ترميم الديون قد يصرف الاستثمار عن مناطق حيوية، كالبنية التحتية والتعليم والبحث العلمي، حذر الاقتصادي في جامعة كولومبيا، إدموند فِلبْس، من أن الديون المتراكمة قد تجعل الحكومة أكثر تردداً في معالجة مسألة تغير المناخ، كما أن ذلك سينعكس على العمليات العسكرية والدبلوماسية الأمريكية حول العالم لأنه لن يترك تمويلاً كافياً لها.
ويقول خبراء آخرون إن الديون الكبيرة قد تصبح عبئاً على الاقتصاد أو تعجل في إحداث أزمة مالية، بحجة أن هناك نقطة تحول تبدأ الديون الحكومية المتراكمة بعدها بإبطاء النمو، وفي هذا السيناريو، سيفقد المستثمرون ثقتهم في قدرة واشنطن على تصحيح مسار سفينتها المالية فيصبحون غير مستعدين لتمويل الاستدانة الأمريكية بدون أسعار فائدة أعلى بكثير، وقد يؤدي ذلك إلى عجز أكبر وزيادة في الاستدانة، أو ما يطلق عليه أحياناً دوامة الديون، وقد تتطلب أزمة مالية من هذا النوع تخفيضات مفاجئة ومؤلمة اقتصادياً أو زيادة في الضرائب.